Atwasat

(وحوش وأرانب)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 يناير 2022, 12:09 مساء
محمد عقيلة العمامي

«تهللت الوحوش الثلاثة بالمقدار ذاته: الجسد والعقل والروح. وكان الثلاثة راضين. فلقد أُشبع جوعها تماما. وإلى الحد الأقصى من شهر العسل هذا مع روحي. كنت أشعر، أكثر من أي وقت آخر في حياتي، أن الجسد والعقل والروح قد صنعت من طينة واحدة. حين يهرم المرء أو يسقط بين براثن المرض أو التعاسة، عندها فقط، يحدث أن تفترق أو تتعارض فيما بينها. وقد يرغب الجسد أحيانا أن يتولى القيادة. وقد ترفع الروح راية عصيانها وتتمنى الفرار، ويقف العقل عاجزا وهو يراقب ويحلل ويدون. ولكن حين يكون المرء شابا وقويا يكون هذا الثلاثي متحدا بأخوة ومحبة متينة! ويعيش الثلاثة على الحليب ذاته». (من تقرير نيكوس كازانتزاكيس إلى -جده- غريكو).

اتفق جسدي وعقلي وروحي، بدرجة لم يتفقوا عليها من قبل، على أمر واحد، وهو الابتعاد تماما عن السياسة، لأنني أساسا لست مُسيسا، ولم تجذبني الأمور السياسية مطلقا، وفوق ذلك قناعتي بأن من يغامر برأسه من أجل إسقاط الحكام وإبعادهم عن كراسيهم لن يتوانوا عن قطع رقبته، وقطع رقبتي يعني قطع رقاب 11 فردا مرتبطين تماما برقبتي! وهذا ما جعلني ذات صباح، عندما وصلت محلا لبيع الأحذية افتتحته من بعد زواجي بميدان 9 أغسطس المقابل للجامعة الليبية، ووجدته مقفلاً، وعندما سألت عن شقيقي عبد القادر وهو رقبة من الرقاب المرتبطة برقبتي، وجدته جالسا مع الطلبة المعتصمين أمام الجامعة، فاتجهت نحوه، وأخبرته أن من له أربع شقيقات بريئات، وجميلات، وشيخ وثلاث عجائز، لا يغامر برقبته، وبهن، وقلت له محتداً: «فزّ!» . كان يجلس بجانب رفيقه رضا بن موسى وهو الذي سمى أول أولاده عليه، لأنه كان حينها محكوما بالمؤ ومسجونا، وظل كذلك لأكثر من 12 سنة ولعلها بسبب ذلك الاعتصام، وأحمد الله أن أخي عبدالقادر طاوعني، وكذلك طاوعني أحد رفاقه وكان اسمه، أيضا، عبدالقادر.

كان ذلك الاعتصام هو أول صدام مباشر بين طلبة الجامعة ومجلس قيادة ثورة الفاتح من سبتمبر! كان قد سبق ذلك الصدام محاورات، ونقاش (ديمقراطي) وارتفعت أصوات ترفض تجول الأحذية العسكرية داخل الحرم الجامعي. وعبارات وجمل رنانة قوية أخذ الطلبة بصلابتها وقوتها، وتسبب في ميلاد عدد من زعماء وسياسيين حقيقيين، وغير حقيقيين، ولكن الأمر لم يستمر طويلا، فقد زُج من زج به في السجون، وغادر من استطاع المغادرة قبيل أو بعيد القبض على رفاقهم. كثيرون منهم كان لأسرهم من يعولهم، وكثيرون لم يكن لهم أحد، فتعبوا، وتأذوا، كما تعبت أسرهم، وتأذت كثيرا.

من السياسيين الذين واصلوا الرفض والمعارضة، الشاعر محمد الشلطامي، وغيره. كثيرون لم يكونوا، حينها، طلبة ولكنهم يترددون على الجامعة، للمشاركة في تلك الحوارات، والنقاشات، فلقد بدا الأمر وكأنه مولد للديمقراطية، ولكنه لم يكن كذلك! وكثيرون من الطلبة، أذكر منهم محمود شمام، جمعة عتيقة، وعلي الريشي، وفرج المذبل، ورضا بن موسى، وكثيرين لم أعد أذكر أسماءهم.

أعترف أنني لم أكن مهتما على الإطلاق، بما كان يحدث من معارضة، أو انضمام للاتحاد الاشتراكي، الذي انطلق نحوه كثيرون من زملاء الدراسة، ثم ظلت المطربة فايدة كامل تصدح فيه لسنوات حتى من بعد إعدام الشهيدين عمر دبوب ومحمد بن سعود، الذي حضرت تنفيذه، بالصدفة، يوم 7/ 4/ 1976 فذلك اليوم تصادف أنه من بعد وفاة سي عقيلة باثني عشر يوما، وكانت إحدى شقيقاتي، مقيمة معنا، وكانت تنتظر مولودها الثاني، وكان عليّ أن أعود وقت وجبة الغداء، بالخبز الضروري في تلك الأيام، ولما مررت على ساحة الكنيسة، وجدت الناس متجمّعة، أمام منصة مشنقة منصوبة، وبجوارها سيارة مصفحة محروسة، في ساحة الكاتدرائية، أمام بابها الرئيسي مباشرة. ولقد توقعت كل شيء إلا أن شنقا سوف يُنفذ. اعتقدت أن المشنقة، لإرهابهم فقط، ولم يخطر على بالي أبدا أنهم سوف يشنقون أحدا. ولكن ما نفذوه لم يكن شنقا، وإنما خنقا، فمن بعد قراءة الحكم وسحب الصندوق الخشبي، من أسفلهما ظلت أرجلهما تقاوم الاختناق، إلى أن انتبه أحد أفراد البوليس، والتقط حبلا، أو سلكا كهربائيا ووثق أرجلهما. وفيما بعد، فسر لي أحد العارفين أن الشنق بالسقطة المباغتة يتسبب في كسر العنق، وبالتالي يغيب الإحساس. وعدت إلى بيتنا بشارع الرعيض مهموما للغاية، وانتبهوا لحالتي، ومن بعد أن أخبرتهم، تأثرت والدتي كثيرا، وكذلك شقيقاتي؛ لأن المرحوم الشهيد عمر دبوب كان جارا لنا في شارع نبوس.

كرهي للسياسة، لا علاقة له بالجبن، ولا بالخوف، فلقد كنت متهورا بما فيه الكفاية، ولا علاقة له بحب الوطن أو مقاومة الاستبداد، وإنما له علاقة بمنطق وضعه سي عقيلة في رأسي، يقول، ما معناه، رعاية الأسرة، باعتبارها الوطن الصغير، هي الخلية التي يتخلق منها الوطن الكبير. ثم كيف لي أن أغامر بمعاداة من لا يرى الحق إلا ما يتفتق في ذهنه، ومن غامر بحياته ليحققه لا يتوانى لسحق من يقف في طريقه. الأمر لا علاقة له لا بالشجاعة ولا بالوطنية ولكن بالواقع: فما هو المصير المتوقع لأربع صبيات جميلات في مجتمع ذكوري، يعشن في منزل بالإيجار وأسرة عائلها نصف بصير، وأم مريضة، وجدة حادة في الحق، ولكنها شبه مُقعدة؟ وأخ لم يتجاوز عشر سنوات، وثان لا يفكر، حينها، سوى في اقتناء سيارة بي إم دبليو 512 حمراء اللون! لأن رفيقه اقتنى مثلها! ماذا سيكون مصيرهم لو حدث مكروه لعائلهم؟ لا أعتقد أبدا أنه مصير آمن مطلقا، أو مريح على أقل تقدير. وعندما أعود بذاكرتي للسنوات الأولى لحقبة نظام القذافي، وأتأمل كيف أن انفتاحا كبيرا حدث في مجتمع كان ما زال يسير ببطء نحو الرخاء، ولعلها سياسية مدروسة، كانت لتتفادى مغبة الطفرة! التي جاءت سريعا من بعد قيام ثورة سبتمبر، ارتفع حجم الإنفاق وانفتحت الأسواق المختلفة على مصرعيها، وتوفرت فرص العمل والثراء السريع سواء من العمل مع الأشغال العسكرية، أو في مجال الاستيراد، أو في برامج التطوير العمراني، الذي وفر فرصة لكل من يريد الاقتراض من أجل بناء بيت، أو حتى عمارة، وكان كل ما يحتاجه المرء قطعة أرض مسجلة باسمه. كانت البعثات الدراسية ميسرة انفتحت بطريقة لم نعتدها في العهد الملكي، بلا ضوابط ولا تمييز ولكنها فرص متاحة للجميع لدرجة أنه كانت بإدارة الجامعة شخصية أميركية، أعتقد أنها كانت تمثل جامعات أميركية، مهمتها تسهيل الإجراءات، وكل ما يحتاجه الطالب موافقة الجامعة، وتقوم تلك الشخصية بتسهيل الإيفاد وسبل الإقامة والقبول في الجامعات الأميركية. هل كان ذلك مصادفة؟ أنا لا أعتقد ذلك، فما حدث بعد التطوير العمراني، بإقرار قانون البيت لساكنه، يبرز أنهم وظفوا الناس للبناء تمهيدا لتطبيق هذا المبدأ، وكذلك فتح الأسواق. تلك الأمور في سنوات ثورة سبتمبر الأولى جعلت كل الكماليات متوفرة، ولا يحتاج المرء إلا إلى المال، وذلك، في الواقع، هو باب الجنوح والفساد لمن قل في قبضته وغاب عنه الراعي! لهذه الأسباب الاجتماعية والسياسية، كانت «العين الحمراء» ضرورية، وكذلك الحنان المفرط، أما حياتي، فقد أسستها متخذا من مقولة لصادق النيهوم، رحمه الله، قاعدة (دستورية !) هي التي سوف أتناولها في الحلقة المقبلة.