Atwasat

هكسلي: حلاج الأدب الغربي (2-3)

عبد الكافي المغربي الخميس 06 يناير 2022, 11:33 صباحا
عبد الكافي المغربي

فيما يستهجن عالم مخيلة Aldous Huxley في ذروة إزهارها الحب التقليدي ويحاول بفضل ذخيرته التقنية المهولة دفع الأفراد إلى حياة تمتاز بالعشوائية في العلاقات الجنسية والفقر المخجل في الجانب العاطفي للعلاقات، تميل لينينا، الفتاة التي نجح العالم في صياغة مصيرها وضد القدرة الكلية للتقنية الباردة إلى أن تسلم نفسها لفرد واحد. ففي أول الأمر ترتبط ببرنارد ماركس، الآلفا الضئيل الساخر أبدا في موقعه في قسم إيعاز الأطفال النائمين بمركز التشريط. ومع ظهور شخصية برنارد المتشكك، المبغض لمجتمعه، وعلاقته المتوترة بلينينا، تستهل الرواية تحدي عصر أحداثها بعد أن انتهت من تلخيصه وفحصه.

وبالزيادة إلى ماركس، ثمة هلمهولتس، الشاب الآلفا العبقري الوسيم، الذي، وعلى عكس ماركس، امتلك بفضل جاذبيته كل فتيات الآلفا الإنجليزيات، وبرغم ذلك كله كان يشعر بالاشمئزاز من دوره غير الشاعري في إعداد حبكة الأفلام الإباحية وكتابة نصوص الأفلام السخيفة التي تقوم بالدعاية لعصر الاستقرار والتضامن الاجتماعي. إن لينينا، التي تكرر على مسمع ماركس الآسف إيعازات النوم وخلاصة تشريطها، وبرغم فزعها من إقبال ماركس على هرطقات من مثل التأمل في القمر، والرغبة في أن يكونا بمفردهما وسط الطبيعة، تهف نفسها مع ذلك إلى حياة عاطفية كان قد عفَّى عليها الدهر. هلمهولتز يستغني عن شهوانية عصره ويسعى إلى بلوغ وعي متسام، لانبعاث طاقة كامنة لديه للإبداع والخلق. ماركس، بدوره، هو صوت معارض، وإن كان غنيا بعيوب الشخصيات الضعيفة، التي تورثها هيئة غير مقبولة أو رفض المجتمع لِغيْرِيّتها قلقا مقيما وتضعضعا خطيرا في الإيمان بالنفس. وعندما يعرض ماركس على لينينا مغامرة السفر في برية أمريكا اللاتينية، للاطلاع على أحوال الأقوام المتوحشين من الهنود، تتهيأ الأنظار لتستقر على شخصية جون المتوحش، صاحب الخطاب المضاد تماما لـ Brave New World, والذي يكاد يكون البديل المقترح لهذا العالم الفظيع عند المؤلف.

تمتد محميات المتوحشين على مساحات محاطة بالأسلاك الكهربية التي تشكل حاجزا عاليا قاتلا، وقد اختار الحكام العشرة أن يقيدوا حركة المجموعات العرقية التي تجنبت الانصهار في بوتقة الانفتاح العرقي والجنسي السابق واللاحق لإسقاط القنبلة المتطورة، بتحديد إقامتهم في تلك المساحات، على أن يخلى بينهم وبين الأعراف والممارسات القديمة التي يفزع لها المجتمع المتحضر، وأن يتم تأديبهم بإسقاط القنابل إذا ظهر تمردهم أو إذا ما مسوا مواطنا متحضرا من الزائرين بضرر.

ولدى وصول لينينا وماركس إلى التجمع السكني للهنود، كانت دهشتهما طاغية إذ بصروا متوحشا ذا ملامح أوروبية يتحدث بإنجليزية أنيقة في هذه المحمية. ولم يكن الشاب إلا جون الهمجي الذي يكاد أن يكون بطل الرواية. ومن سخرية الكاتب أن يكون جون ابن مدير مركز التشريط والتفريخ بلندن ورفيقته ليندا، التي فقدت اتجاهها في البرية فجر ذات يوم بينما كان المدير يغط في نومه، لتسقط من منحدر وينقذها بعض الهنود لتلد الطفل جون عندهم، ما كان أدعى لاستفظاعها.

وتحتل علاقة جون المعقدة بأمه أقدر مشاهد الرواية على سلب استجابة عاطفية، فليندا التي ما فتئت لخزي إنجاب طفل لا تملك أن تنعم بابنها إذا كان قد قدر لها العيش وسط هذا المجتمع القذر المؤمن بالخرافات والممارس للهرطقات، وهي في لبس من أمرها إزاء حبها للطفل، ولا تلبث أن تصفع خد الصبي إذا ناداها بأمي، حتى تحتضنه وتجود على ذات الخد بالقبلات.
يخبِر الفتى المعذب انقسام عوالم الرواية خبرة حقيقية ماثلة للوعي والتجربة، إذ يقضي أغلب نهاره مع الأطفال الهنود، وشطرا من الأصيل والليل كله مع أمه التي تستحضر له حياتها الأولى في لندن وعجائب عالمها. وينشأ عن تناقض الخطاب الأيديولوجي المنبث إلى وعي الطفل تمزق شخصيته وتناقضها.

وقد اتخذت والدته أصحابا من فحول الهنود على دأب أعرافها الجنسية التي لا تملك لها تغييرا، وعندما بلغ أطفال الهنود سنا يميزون فيه "الآخر" نبذوا الطفل الأشقر، وجعلوا يرمونه بسلوك أمه الشاذ ليضطروه إلى اعتزالهم. وعندما وجد ابن العاشرة وقتا طويلا للخلو بنفسه، وقع على مجلد ضخم ضم مسرحيات وسونيتات شكسبير، الممنوعة إلا على الملوك الفلاسفة في عالم أمه. يتخذ جون من شكسبير إماما، وما كاد يستلهم هاملت فيطعن صاحب أمه الهندي في نومه طعنا غير موفق لضعف يده، إلا وقد غدا الناطق الرسمي المستَشرِف باسم الشعراء في عالم Brave New World.
وكان ماركس قد صادف في جون صِنْوَه، ليس بتقارب في الطباع، وإنما بحكم اشتراكهما في النبذ على أساس المظهر. فلم يكد جون يبلغ السن التي يرهقها شبوب العاطفة وتئن تحت وطأة تمرد الغريزة الكامنة حتى رأى فتاته المفضلة تزف إلى شاب من عرقها، وكذلك ماركس الذي كان داعي تندر فتيات لندن، وضرب الرجال جون بقسوة لما قاوم منعهم إياه من المشاركة في طقس يتوج بلوغ الفتية مبلغ الرجال، وأسرع جريحا مهانا إلى حافة هاوية يطلب الموت لولا أن اكتمال قمر الليلة استرعى توقفه واحتال على الشاعر بما يبدد رغبته الثائرة في ألا يتطلع بعد ما وجد من نبذ عنصري إلى صفحة هذه الدرة. وماركس يدرك بمرارة أن الرجال من طبقته، في ما عدا هلمهولتس صديقه الحميم، يهونون من شأنه ويأنفون من صحبته. هنا فقط يبدو من المعقول أن تنتهي الرواية من رسم شخصياتها، وتبحث عن الخلاص فيما يستعد جون وماركس ولينينا، وليندا أخيرا، للعودة إلى لندن.

حين يستدبر جون عالما فظيعا ليستقبل خيبة ميراندا الحتمية خارج مسرحية العاصفة، عندما يستشهد جون بشكسبير "How beauteous mankind is! O brave new world, that has such people in 't!" يغدو البحث عن الخلاص مرهقا وعسيرا للمتوحش وللقارئ معا.