Atwasat

التصوف النسوي

رافد علي الخميس 06 يناير 2022, 11:26 صباحا
رافد علي

مع ذكر النسوة في الصوفية تبرز رابعة العدوية كأشهر الأسماء النسائية في الثقافة الإسلامية، وهي التى بفضلها بان مصطلح "العشق الإلهي"، الذي تجاوزت به الصوفية نمطية الزهد والاعتزال بقصد التفرغ للتعبد، دون أن تتخلى الصوفية عن سمتها الأساسية، كونها حالة ذوقية شخصية، تحول بينها وبين أن تكون مذهباً دينياً له أسلوبه المنهجي، إذ ظلت الصوفية، على مدى التاريخ، حقلاً واسعاً للتعبد التزكوي فى الدين الإسلامي، إذ تشكلت للصوفية على مدى عمرها دلالات كثيفة بالخصوص، وأصبحت علماً له أدواته الخاصة، بما اعتبر خروجاً عن النمط الفقهي الشائع، رغم الانتقادات الموجهة لها ابستمولوجياً بكونها تتخذ من العرفان ركيزة أساسية.
رحال بوبريك في كتابه بركة النساء، يرى أن النساء وجدن فى الصوفية براحاً يلوذن به من حالة الجمود المدرسي للفقه الذي يقيدهن، وتوفر لهن عوضاً عن ذلك، حالة تحرر من التقليدية التى فُرضت عليهن، من خلال المعتقد السائد بأن المرأة "ناقصة عقل و دين"، الذي ساد كنمطية مجحفة، وتأويلية تضيق من النص القرآني.

فالمرأة في الصوفية الفلسفية، التي يتجلى فيها ابن عربي، تجد النسوة وضعية مريحة لهن، تعزز حريتهن الدينية، بحيث حقق بعضهن دوراً بارزاً كسرن من خلاله حاجز الذكورية في مجتمعاتهن. فقد شهد التاريخ الإسلامي بروز صوفيات على امتداد رقعة الإسلام كالشيخة ميمونة في المغرب، و الشيخة زينب في مصر، و ميمونة في مالطا. فالتمايز بين الرجل والمرأة فى الأهلية الدينية كما في قضايا الإمامة والقطبية والتشوخ والإفتاء والقضاء الشرعي، يعد تمييزاً ظاهراً تجسده الأخلاق الشرقية وفلسفتها التى ترسخ دونية المرأة، وتُنَظّر المذاهب الفقيهة لهذا التمايز لصالح الرجال. فالمرأة فى الفلسفة الصوفية تعتبر مبدأ الحياة الإنسانية كلها، فقد جعل ابن عربي العلاقة مع المرأة تجديداً للعلاقة مع الألوهية والطبيعة، كما توضح نزهة براضة في "الأنوثة في فكر ابن عربي".

فبعض السيدات الصوفيات يفضلن الحشمة على التقيد بإلزامية الزي الديني "الحجاب"، فالمرأة المسلمة عموماً، حسب نزهة براضة وعند ألفة يوسف*، تتشارك إنسانياً مع الرجل في قيمتي العفة والحشمة، وليستا متعلقتين في الاسلام بالنساء فقط، فالعفة والحشمة متصلتان بمعيار التقوى للتمايز أمام الله. فقد برزت في العالم العربي أسماء سيدات صوفيات كما هو الحال في السيدة زينب بمصر، والصوفية فاطمة النيسابورية أستاذة ذي النون المصري في القرن الثالث هجري، وكذلك برز اسم اللالة ميمونة في المغرب وميمونة الهذلية في مالطا.

إلا أن بعض الأبحاث والدراسات الأكاديمية المتعلقة بالصوفية والتصوف النسوي تحذر من المبالغة في إيجابية وضع المرأة في المتخيل الصوفي بشكل عام، إذ يرى هذا الاتجاه ان رفع شأن الأنوثة وقيمها، لا تنسحب على معظم التيار الصوفي، الذي ظل وفياً للرؤية الأخلاقية الفقهية بخصوص الأنثى في الثقافة العربية كما يوضح مراد جدّى** ومحمد أبو رمان***. فلم تسجل كتب الطبقات والتراجم دور المرأة المتصوفة كواقفة في المساجد والتكايا، مما ساهم في نمو الصوفية لأن تصبح ظاهرة أو طريقة، كما يُسجل على كُتب التاريخ تجاهلها للتطور العلمي للمرأة المتصوفة، إذ لم تكتف المتصوفة بنيل العلم، بل سعت لتدريسه وتعليمه للآخرين، وقد برزت أسماء بعض الصوفيات فى هذه الجزئية مثل فاطمة بنت عباس البغدادية (714 هجري) المعروفة في الشام ومصر، وعائشة العدوية (1080هجري) في مكناس، وعائشة الباعونية الدمشقية المشهورة بالإفتاء والتدوين الأدبي والعلمي، والسيدة نفيسة بمصر، التي كانت تربطها علاقات تواصل علمي ومعرفي مع الإمام الشافعي حسب ما تقدمه عزة جلال في "سيرة المتصوفات فى التاريخ الإسلامي"****.

فعزة وجدّي وأبو رمان متفقان على أن المرأة الصوفية لم تحقق اختراقاً حقيقياً لرفع ظلم الرجولة عنها، فالصلاح الرجولي لازال يتحكم في الصلاح النسوي، والرجل لازال يملك وحده مفاتيح الدخول لعالم الولاية، وهو من يمنح التراخيص لذلك، فالمرأة الوليّة الصالحة تقدم دائماً في صورة سيدة عجوز.

ترى المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل في كتابها عن التصوف النسوي "روحي أنثى: الأنوثة فى الإسلام"***** أن التصوف النسوي فى القارة الهندية يشكل حالة "إفاقة" لأجل إعادة النظر في التصوف الأسلامي بالعالم العربي وتفسيراته التى تخص المرأة المسلمة في الموروث الديني، فشيمل تكشف عبر نصوص وخواطر متصوفة في جنوب القارة الهندية عن رؤية بالغة الحساسية للأنوثة كونها "تجليا إلهيا" وكون المرأة مرتبة شرف للمريد أن تكون روحه أنثوية، رغم حصر لقب المريدين باسم "رجال الله"، و رغم أن عنصر الأنوثة في القرآن في لفظة "النفس" مؤنثة، وتلح المستشرقة في كتابها على زيادة تكثيف النظر في التصوف النسوي في الإسلام خارج النطاق العربي الذي يقيد المرأة تعسفاً، علاوة عن كون العرب أقلية في عالم الإسلام، بما سيتيح للقرآن الكريم حواراً داخلياً مع ذاته عبر تأويلية أكثر تحرراً، خصوصاً بعد زيادة وتيرة ظاهرة التعصب الديني.

تبقى التجربة الصوفية للمرأة كولية صالحة حكراً على الكتابة الذكورية إذ لم تعبر عنها المرأة بصفة مباشرة، فعالم المقدس محاصر بالذكورية كما هو ظاهر، رغم أن السوسيو-ثقافي قد سمحت للذاكرة أن تحتفظ لبعض النساء بمكانة فى عالم الصلاح الديني.

هوامش.
• التدين الصوفي فى طبيعته النسوية ورهان النوع الاجتماعي. مراد جدّي. مؤمنون بلا حدود. 2016.المغرب.
• أسرار الطريق الصوفي: مجتمع التصوف والزوايا والحضرات فى الأردن. محمد أبو رمان. مؤسسة فريدريش ايبرت. عمان. الأردن. 2020.
• روحي أنثى: الأنوثة في الإسلام. آنا ماري شيمل. الكتب خان. القاهرة. 2016.
• سيرة المتصوفات في التاريخ الإسلامي. عزة جلال. جمعية دراسات المرآة والحضارة. العدد 2. القاهرة.