Atwasat

بعد رحيل ديزموند توتو

جمعة بوكليب الخميس 06 يناير 2022, 11:23 صباحا
جمعة بوكليب

في فترة الثمانينات من القرن الماضي، اشتدت حدّة المسألة العنصرية في جنوب افريقيا. ووجد العالم الرأسمالي الغربي -الملقب بالحُرّ - نفسه في مواجهة أخلاقية وسياسية تهدد بنسف أعمدة صروحه، تتعلق بالموقف من النظام العنصري في بريتوريا. ولم يكن ممكناً تجاهل السؤال الأخلاقي وما يطرحه من تحدّيات، في وقت كانت فيه المجابهة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي قد وصلت مرحلة كسر العظم.

كان المثقفون والكتّاب والفنانون والطلاب وأنصار الحرية، من كل ألوان الطيف السياسي، يقفون في جبهة عالمية واحدة مع حق شعب جنوب أفريقيا في العيش على تراب بلاده بحرّية، ويقودون المظاهرات في كل عواصم أوروبا، مطالبين بإلغاء نظام الفصل العنصري، ومقاطعة نظامه اقتصادياً وسياسياً. وعلى الجبهة المقابلة كان يقف الساسة ومؤسسات وأجهزة الدول ورجال الأعمال والشركات الكبرى، في معارضة لأي مقاطعة اقتصادية أو سياسية. ولم يكن ممكناً المصالحة أو التوفيق بين الجبهتين، أو تجسير الهوّة التي تتزايد بينهما يوماً بيوم. وللخروج من الموقف الصعب، ابتدع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، لأسباب استراتيجية، ما أطلق عليه سياسة "الانخراط الإيجابي- Constructive Engagement." في سياسة جنوب إفريقيا الداخلية. ويقصد بها إظهار الحياد في ما يحدث من صراع بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء. تلك السياسة كانت، في الحقيقة، ليست سوى محاولة يائسة وبائسة للهروب للأمام، في ما يشبه موقف النعامة لدى مواجهة الخطر بدفن الرأس في الرمل. ولم يكن ممكناً الترويج لبيعها. وانتهت حيث يجب أن تكون: في مزبلة التاريخ.

عقب الإعلان مباشرة عن تلك السياسة، رد الأسقف ديزموند توتو مندداً وقائلاً: "أن تكون محايداً، يعني وقوفك فعلياً مع الحالة الراهنة. إذ كيف تكون محايداً في وقت يقوم فيه نظام جنوب أفريقيا بطرد أمهات وأطفال من بيوتهم، ويتركهم يرتجفون برداً في العراء تحت أمطار الشتاء؟" وفي بريطانيا، أيضاً، كانت السيدة تاتشر، رئيسة الحكومة وقتئذ، تقاوم بشدة كل الدعوات المطالبة بالمقاطعة الاقتصادية، وبأعذار ومسببات واهية، لا تختلف عن مبررات الرئيس ريجان.

الصبي، الذي ولد لأبوين فقيرين في قرية صغيرة في الشمال الغربي عام 1931، فيما كان يعرف باسم إقليم "كليركس دورب"، كان يحلم أن يكون طبيباً لعلاج الناس من أمراضها، لكن حلمه لم يكن ممكن التحقق في عالم تحددت خطوطه قبل أن يولد: عرقياً وطبقياً.

لذلك السبب، قرر الصبي، في مرحلة لاحقة من عمره، أن يكون طبيباً لعلل النفوس، وإيقاظ الضمائر من سباتها، وصار قسّاً تحت جناحي الكنيسة الإنجليكية المعادية للعنصرية. كان اسمه ديزموند توتو، وكان صوتاً مدّوياً زعزع بثباته وقوته أعمدة النظام العنصري. وفي عام 1984 استحق ونال بجدارة جائزة نوبل للسلام. وظل شوكة حادة في خاصرة النظام العنصري حتى تفتت وأنهارت صروحه. وظهرت على خريطة العالم دولة جنوب أفريقيا مختلفة، ومتعددة الألوان والأجناس، أطلق عليها الأسقف توتو اسم "أمة قوس قزح - Rainbow Nation. وصارت تعرف بذلك الأسم. ورغم انتصاره في المعارك التي خاضها سياسياً، خسر الأسقف توتو مؤخراً معركته ضد مرض سرطان البروستاتا، وسلم في الأسبوع الماضي الروح، تاركا جنوب أفريقيا تلملم جراح سنوات طويلة من فساد سياسي منقطع النظير، طال نخبتها السياسية في أعلى الهرم السياسي، ممثلاً في الرئيس السابق جاكوب زوما.
كان المناضل نيلسون مانديلا ورفاقه رموز الحركة المعادية للعنصرية وقادتها، داخل أسوار السجن. وخارج الأسوار، في جنوب أفريقيا وخارجها، تولت قيادات الصف الثاني مواصلة النضال السياسي والعسكري، وكان الأسقف ديزموند توتو يسير خطوة بخطوة، معهم، في خط مواز، لكنه معاد للعنف. يدعو للسلام إلا أنه، وفي نفس الوقت، يرفض أن يكون محايداً في الحرب ضد العنصرية. تلك الحرب كانت على عدة جبهات، واتسعت رقعتها، والتزام الحياد فيها، يعني ضمنياً الوقوف ضد حق الشعوب في العيش بكرامة، ومن دون تمييز قائم على اللون والعرق. وما يميز الأسقف الراحل توتو أن صوته لم ينل منه صدأ. لأنه بعد سقوط النظام العنصري، وخاصة في مرحلتي حكم الرئيسين السابقين ثابو أمبيكي وجاكوب زوما، انتقل إلى قيادة المعركة ضد الفساد الذي سرى بين قيادات وكوادر المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم.

وكان هو من قاد وترأس لجنة الحقيقة والمصالحة المشهورة، التي مثل أمامها كل مرتكبي جرائم العنف إبان فترة الحكم العنصري ومن الجهتين. كان الاعتراف بالحقيقة كاملة شرطاً للعفو والصفح.

الأسقف توتو وقف مع حق الشعب الفلسطيني في الحرية، ووصف ما يحدث في فلسطين من قبل العدو الصهيوني بأنه عنصرية مقيتة. وحين تحركت الآلة الإعلامية الصهيونية ضده في حملة مناوئة، صمد في موقفه وواصل إدانته لما يحدث للفلسطينيين من تفرقة لا تقل سوءا عن التفرقة العنصرية في بلاده.

وهاهو يغادر عالمنا الأرضي، في وقت أكثر ما تكون فيه بلاده على وجه الخصوص، والعالم عموماً، في حاجة إلى قادة من معدنه وقوة شخصيته.