Atwasat

هكسلي: حلاج الأدب الغربي (1)

عبد الكافي المغربي الخميس 30 ديسمبر 2021, 11:21 صباحا
عبد الكافي المغربي

لا يخطر الأديب والمفكر الإنجليزي Aldous Huxley عفوا على المثقف العربي، لقصور الترجمة الوحيدة المتوفرة، وتحديات قراءة النصوص الأصلية. ولا تتراءى لنا دقة مزاعمنا بقدر من الوضوح عظيم إلا إذا نظرنا إلى نقل المترجم العربي لعنوان الرواية Brave New World، التي صاغت اسم الأديب، في عدم معرفة منه بالرمزية الشكسبيرية في تخير العنوان لهذه الرواية في مسرحية العاصفة، وفي الرواية التي هي بين أيدينا، إنما ترادف عالما جديدا باهرا، وليس شجاعا. وفي ضمن هذه العثرة التي قتلت الترجمة كلها لومٌ لمن يشدد على أولوية المعرفة التامة بلغة المستهدفين في عملية النقل، ولكن هذا ليس موضوعنا!

يعد الأديب Aldous Huxley إلى جانب رفيقه D. H. Lawrence من أبرز أدباء "رواية الأفكار" في العالم الغربي، في استمرارية لتولستوي. يفترق الرفيقان في النزعة الفلسفية لأفكار Lawrence والطابع العلمي التقني لروايات Huxley.

ولد Huxley لعائلة مرموقة في الأصل، ومن أعمامه علماء نظرية التطور وأطباء ذاعت شهرتهم في إنجلترا كلها. وكان Huxley الذي حاز على أعلى تعليم مقتصر فقط على أولاد الطبقة الوسطى العليا بالمدارس الداخلية، وبدأ دراسة الطب في أكسفورد عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وفي اندلاعها تبخرت طموحات الشاب العلمية إذ أخذ نظره يضعف بحدة حتى أصيب بالعمى الكامل سنة 1917. وإن يكن Huxley قد استرجع بعض بصره، فقد قدر عليه أن يبتدع من الأدب ومحصوله العلمي القديم مزيجا خاصا في مهنة أدبية لامعة هيأت لصاحبها شهرة وخلودا يفوقان شهرة 1984.

في رواية "عالم جديد باهر" يوظف الأديب مهارة فنية فائقة، ومرجعية علمية موثوقة، وقدرة تنبوئية مُوْجسة، وهجائية حادة يرغبنا فيها تمخض آسر لمشاعر وعذابات الشخصيات، في خدمة بغضه للأفلاطونية وإطلالته المتشككة على إنسانية مفتقرة لقانون أخلاقي نابع من جوهر وجودها، الجثماني بالدرجة الأولى.

في "عالم جديد باهر" ينشأ مجتمع أفلاطوني بعد سقوط قنابل متطورة (نشرت أول طبعة للرواية سنة 1932 قبل سقوط قنبلة هيروشيما بأكثر من عقد)، حيث يتوحد العالم بأسره تحت سلطة الحكام العشرة الذين يتوزعون على مراكز سلطة متوازنة. في هذا العالم الجديد، يصبح المثال الأفلاطوني قابل التحقيق بفضل العلوم والتقنية، وليس Huxley أول من أقلقته التناقضات الخطيرة في احتمال قيام مدينة فاضلة على صورة طرح أفلاطون.

يَمْثُلُ الحكام العشرة كملوك فلاسفة، يشرفون على إدارة هذا المجتمع الطبقي المؤلف من الآلفا العبقرية المرفهة إلى طبقة الأبسيلون شبه الحيوانية، ويحرصون على ألا يتسرب خطاب أعداء الأفلاطونية، قلق الوجود وآهات الشعر، إلى القادرين على الفعل في هذا العالم، الآلفا. لتثبيت اليوتوبيا على أرض صلبة يحرص الهيكل الإداري في عالم 632 بعد فورد (عالم كفر بالله ليؤمن بإمبراطور صناعة السيارات ورائد الاستثمار العلمي هنري فورد)، يحرص على إخضاع الأطفال لمراحل تشريط سلوكي معقدة تبدأ من أنابيب حفظ الأجنة ونقاط تفريخهم (في عالمنا هذا اختفت العائلة من الوجود وعطل التلقيح الطبيعي ومعه الإنجاب). من ضمن مشروع الاستقرار للقيادة طائفة من التعديلات الجينية تحدد مسبقا قدر كل فرد، وتخلق قوة عمل لا تكتئب أو تُرهق لتقلق الحضارة بدورها على رأي فرويد. يخضع الأطفال الرضع من طائفة الدلتا العاملة في مراكز التشريط مثلا لتمرينات مخيفة شبيهة بتجارب علماء النفس السلوكي في قانون الاستجابة الشرطية. يملك الصغير في مملكة الحيوان رغبة مهلكة في اكتشاف كل ما سطع من الألوان وما بهر النظر، وعليه يغرى أطفال الدلتا بمشهد كتب مصورة وورود، فإذا مدوا أيديهم الضئيلة لاكتشافها يتم تشغيل الدوائر الكهربائية في الأرض حيث يزحف الأطفال، لتنشأ عقدة شرطية من المعرفة ومن الطبيعة، يكون لا رافع لها إلا تدخل عالم النفس السلوكي، الذي هو بدوره فرد من طبقة أعلى فاسدة لا تبالي بمصير خدمها.

في الفصل الثالث نطل على مشهد الحاكم المسيطر على أوروبا الغربية، مصطفى موند، وهو يتفضل بالمحاضرة على مجموعة من الشباب المتحمسين من طبقة آلفا في حديقة مركز التفريخ والتشريط، حيث يحدثهم عن مآسي العالم القديم، وعن مساويء الحياة الأسرية، وعن مفهوم العلاقات الجنسية، وكلما ارتد إلى ماضيهم الذي هو حاضرنا صادف منهم عسرا في الفهم، عجزا عن تصور هرطقة أجدادهم، بل فزعا أمام إمكان أن يكون ثمة تاريخ، ما كان يبث إلى قلبه الطمأنينة أنه قد أحسن صنعته.

وفيما هو يحاضر على هذا الجيل الذي نجح العالم في صياغة مستقبله الفكري بفضل التقنية، يلهو الأولاد والفتيات الصغار في عمق الحديقة، في مقدمة إلى توسع الرواية في وصف الانفتاح الجنسي الذي أبصر فيه الكاتب في أواخر عشرينيات القرن الماضي كساد بضاعة المعرفة والتقاصي عن غايات الروح.

وإن يكن Huxley صاحب رؤية تنبؤية استشرفت التقدم العلمي الخطير في الهندسة الوراثية، والثقافة الاستهلاكية وتدني جودة الغذاء، وصناعة الأفلام الإباحية، والألعاب التقنية التي احتلت مكان القصة بالنسبة إلى أطفال هذا القرن، والإمكانيات التعبوية لأجهزة الإعلام، وأكثر من ذلك، فإنه لم يأنف من أن يتحدى عالمه الجديد الباهر بشخصيات شذت عن القاعدة التي كانت التقنية الباردة ضمانها.

_____________________________

- مقالات الكاتب: عبد الكافي المغربي