Atwasat

الحملات الأمنية نحو فزان..وجع واحد لأزمنة متعددة

محمد بالنيران الإثنين 20 ديسمبر 2021, 12:28 مساء
محمد بالنيران

على مدى عقود من الزمن وسبها على الخصوص والجنوب الغربي دائما على موعد مع الحملات واللجان الأمنية القادمة من الشمال، وتأتي هذه الحملات عادة لحفظ الأمن ومكافحة الجريمة والتهريب، عبر قوات وتشكيلات وإمكانيات وإمدادات خاصة، وبصلاحيات واسعة واستثنائية في أغلب الأحيان.
لم تعلن الدولة من خلال إدارتها الأمنية، لا قديما ولا حديثا، عن مخرجات تتعلق بنجاح أو فشل أي حملة أمنية، كبيرة كانت أو صغيرة، واسعة أو محدودة.

تاريخياً ومنذ القدم اتخذ مسار الحملات الأمنية اتجاها جغرافيا وحيدا من البحر إلى الصحراء، وغالباً ما اتخذت كل تلك الحملات نظام التأديب والعقاب الجماعي للسكان هناك، بدءا بحملة (المكني) في عام 1811 الذي أرسله يوسف القرمانلي لجباية الضرائب فاحتل فزان ونصب نفسه حاكما عليها، وصولا إلى حملات العصر الحديث التى صارت تتشكل في الغالب بمنطلقات أكثر تطوراً كرافد للسلم والأمن مثل لجنة العقيد خيري خالد لضبط الأسلحة وحملة العقيد ميلود لمكافحة التهريب وحملة العميد حسن الكاسح، وصولا مؤخراً لحملات كتائب بوحليقة والعقيد بوخمادة والقوة الثالثة.

وصاحب كل هذه الحملات تكليف العديد من مدراء الأمن ورؤساء الأمن الداخلي والبحث الجنائي وغيرهم من عناصر امنية مركزية أو تربطها علاقات خاصة من نوع ما بالسلط المركزية، مما يطرح سؤالا مفتوحا لكل من يستطيع الإجابة، هل المشكل الأمني حله في القوة الأمنية القادمة من الشمال أم أن مشكلته تكمن أساساً في هذا النوع من الحلول الطارئة؟ والتي تحولت مع الزمن إلى حلول دائمة، وفاشلة.

وفي كل مرة تزداد معدلات الجريمة ويتسع مجال التهريب ويتفاقم المشكل الأمني إلى مستوى أسوأ من ذي قبل.

إمكانيات ضخمة وأساطيل من المركبات ومخصصات مالية عالية لكل حملة لا يبقى منها شيء ذو قيمة في سبها عند انتهاء تلك المهام ورحيل تلك القوات الشرطية أو العسكرية، وكلما غادر مسئول ما أو آمر منطقة أو كتيبة، ترحل معه السيارات والصلاحيات وحتى عامل الخبرة الذي تزودت به تلك العناصر وهي تعود لمواقعها المركزية، محملة بالترقيات والأوسمة ويصنف قادتها بموجبه كخبراء في الشأن الأمني الجنوبي.

وفي كل مرة ينتهي الأمر ببقاء سبها وجاراتها على الدوام ضمن تصنيف أمني متدنٍ لا توجد أي إمكانية لإصلاحه إلا بالتجهيز لحملة جديدة بعد فشل سابقاتها.

لقد سقط من حسابات الجميع بناء ومأسسة الحلول الأمنية القارة مكانياً، على أسس ونظم سليمة ومستدامة، بل على العكس تحول الأمر إلى سياسة نفعية للبعض وعقابية للبعض الآخر، وكل من يعصى الأوامر ويرتكب مخالفة ما، يكون العقاب إرساله إلى المناطق الجنوبية.

ورغم وجود استثناءات لبعض الجهود المخلصة والصادقة، إلا أننا هنا لسنا بصدد تقييم شخوص بعينها وإنما لتعرية وهدم فكرة القوات الفدرالية المركزية التي لا تظهر إلا لتذهب فقط لذات الوجهة وتنتج دائماً ذات الخيبة وتكرر ذات الفشل.

كنا كمجتمع محلي صغير منذ أواخر الثمانييات نسمع عن أسماء محدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، ممن يزاولون ما يعرف بتجارة الدخان (السجائر)، وربما كان مثل هذا العدد بتردد أو خوف يفكر في الانخراط في هذا النشاط.

كانت مخاطر هذا العمل عالية وغالية الثمن، منها ما هو أمني وقانوني وعقوبته السجن، وما هو اجتماعي وعقوبته النبذ، إلا أن بعضا من عناصر تلك (الغزوات) الأمنية كانوا للأسف رعاة وشركاء لهذه الممارسات، ووفروا لها الحماية والغطاء وانخفضت بناء على ذلك نسب المخاطر، وازدهر نشاط التهريب وتزايدت أعداد المهربين واختفت هياكل الشاحنات القديمة من رحبة الآليات ودبت في أوصالها الحياة، وصارت تمخر عباب الصحراء محملة ذهاباً بالتموين المدعوم، وعائدة بصناديق الـ «مارلبورو»، وبعد ظهور أنظمة الجيل الرابع لتجارة العبور، صارت تنقل إلى ليبيا حبوب الـ «ترامادول» والحشيش، والخمور، والمهاجرون.

مؤخرا وعلى خلفية انقسام حكومات البلد، صار الاستقطاب السياسي جنوباً يأخذ أيضاً شكل الحملات الأمنية نحو فزان، التي بدأت تأخذ طابع الصراع المباشر عبر أموال، أو قوات تتجه إلى هناك بدواعي حفظ الأمن، تقابلها انقسامات محلية فرضتها طبيعة الولاءات والمصالح ونظام القرابة الاجتماعية التي صارت محركا رئيسا للفوضى، ما أحال حياة الناس هناك إلى جحيم لا يطاق.

إذا ما قسنا المحصلات التراكمية لكل الجهود والممارسات التي صاحبت عمل قوات حفظ الأمن الموفدة رسميا للجنوب أو الوافدة من تلقاء نفسها منذ الباندة التي استدعتها (خود) زوجة أحد سلاطين فزان ماقبل 4 قرون، لتأديب خصومها فانتهى الامر بمقتلها على يد قائد تلك الحملة نفسه، فإننا لن نجد أكثر من نتيجة واحدة بصور مختلفة متمثلة أولا في نسب الفشل المتفاوت بين تلك الحملات وفي توسع نطاق الخلل الأمني، وتطابق متلازمات العسف والغدر، الفقر، البؤس، التشظى، والرشى وشراء الذمم، والحرب بالوكالة، والموت بالنيابة عن الغير، وتحول المنطقة إلى ساحة خلفية لتصفية حسابات قوى متصارعة، تحتضن بعضها أمام كاميرات التلفزيون وتمارس في نفس الوقت لعبة كسر العظم في الشارع (الواسع).

إن التنوع والتوازن الاجتماعي في فزان هو أحد ضمانات البقاء للجميع هناك، وكل محاولات التسلط الذاتي التي توهّم بالخلاص، وفشل فيها كثير من الجهويين، والقبليين أو بتسليط طرف على آخر، بدعم حكومي أو دولي بالاتكاء على موروث الآركيولوجيا البائدة، هو بمثابة سيناريو انتحار جماعي بطييء يبدو غير واضح للعيان، فالحياة في فزان لا تحتمل أكثر من خيارين، إما تكاملية تكافلية وإما لا حياة من الأساس.