Atwasat

شيء من مفكرتي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 07 ديسمبر 2021, 09:15 صباحا
أحمد الفيتوري

قبل، قبل الحاسوب، قبل كانت لي مفكرة، وقعت بين يدي اليوم، قبل أدون ما يعجبني، وما أريد، أقتطعه من النص، حتى يصير ما كتبت. أنتزعه من سياقه، أدسه في سياقي، لغرض ما قبل كنت أفعل ذلك، منها حتى لا يضيع عني، ما قرأت، ما أبتغي، أن يكون لي. كأن ما في المفكرة من تدويني، رسائل حب ممن أحببت، ولنفسي.

المفكرة قبل، بمثابة شغاف القلب، والسر المكنون، حبذا أن لا تطلع، على عين غير عيني. ربما هذا من دواعي الحرص المتشدد، أن لا يرى غيري ما أحب، وفي حال مبعثر، مشتت، منثور، على عواهنه كجبل منفوش. وكتبت ما كتبت، بشغف المكتشف والمحب، ودسسته في المفكرة، ما قبل مدسوسة عن غيري، ثم استبيحت مع الحاسوب.

أذكر كيف جائتني المفكرة، الفكرة رافقتني منذ الصبا، وخاصة في المراهقة، حين في المدرسة، حين أخذنا كراسة، لنكتب فيها، الزملاء والأصدقاء خاصة، ذكرى: فإن الذكرى ناقوس في عالم النسيان، أوكما كنا نكتب. وكنا نلح على البنات الجميلات، أن يكتبن لنا في مفكرتنا ما يتيسر، وقد فلحت مرات قليلة، وفرحت كثيرا، واحتفظت بذلك سرا وإلى وقت، وفي كل مرة، كنت أظهر لصديق ما كتبت فلانة، طبعا كي أغيظه، ونتج أن ذا السر، أطلع عليه الجميع فقط.

وها أنا هنا أطلعك على سري، أو شيء من مفكرتي:
- جهل ابن رشد
تحضرنى رواية، أحب أن أرويها، كلما شدنى ركح المسرح، عن ركح شواغلى: في الرواية الثانية، كان ابن رشد والفقيه فرج يتحدثان، مع التاجر أبى القاسم، الذي عاد لتوه من زيارة نائية. وكان أبو القاسم، يروي قصة غريبة، عن شئ ما رآه، في "سين كالان" - كانتون - فقال: دار خشبية، فناؤها الكبير، شرفات ومقاعد، تكتظ بناس، ينظرون إلى منصة، فوقها خمسة عشر أو عشرون شخصا، غطوا وجوههم بأقنعة مطلية، وقد امتطو صهوات جياد. ولم يكن هنالك أي حصان، وكانوا يبارزون، ولم يكونوا مجانين، أوضح أبوالقاسم، ولكنهم كانوا يمثلون، أو كانوا يفرجون حكاية.
لم يفهم ابن رشد قصده، فحاول أبو القاسم أن يشرح الأمر: تصور، قال، أن أحدهم يفرج حكاية، عوض أن يرويها.

- وهل كانوا يتكلمون ؟، سأل الفقيه.
- نعم، أجاب أبو القاسم.
- مادام الأمر كذلك، فهم لا يحتاجون، إلى أشخاص كثيرين. شخص واحد فقط، يستطيع أن يروي أي شىء، وإن كان معقدا، قال ابن رشد.

وفي نهاية الرواية، قرر ابن رشد، أن يفسر كلمتي الترجيديا والكوميديا، وينسبهما إلى المديح والهجاء. (هذا ما فعله ابن رشد، في تلخيصه لكتاب أرسطو "الشعر"، إذ اقتصر تفسيره لفن الشعر، على أساس الشعر عند العرب، وأغفل كل ما يتعلق، بفن الشعر الدرامي، ولا سيما مقومات العرض، من الجوقة والممثلين والسينوغرافيا ) .

لقد تطرق ابن رشد، إلى تجربة المسرح مرتين، وباقتضاب، واستخلص فحواها، دون أن يفهمها. وهذا ما نعتبره خسارة، و لا سيما أنه كان يمتلك، عدة نظرية جاهزة لتحديده. وفي المقابل كانت الحضارة الغربية، في القرون الوسطى، تمتلك التجربة الفعلية للعرض المسرحي، ولكنها لم تكن تمتلك، العدة النظرية الوافية، للإحاطة بها .

ومن حسن حظنا، أننا نملك اليوم الاثنين معا، ولكننا قد نتعامى عن الحقيقة، أحيانا كما فعل ابن رشد, وللعمى ضروب: هنالك العمى، بسبب انعدام الضوء، وهنالك بسبب ازدياده. فابن رشد، لم يعرف أي مسرح على الاطلاق، واما نحن، فإننا نعرف مسارح كثيرة. كما جاء في مقالة:" سيمياء العرض المسرحي، للمفكر السميائي والروائي الايطالي امبرتو ايكو، المنشورة بمجلة الفكر العربي، العدد الخامس والخمسين، فبراير 1989م السنة العاشرة .

– مسرح داريو فو
لقد أوجد "فو" لنفسه لغة، اختلقها من خلط اللغات، الدارجة المتعددة في ايطاليا، لغة تدعى "قرملوط"، وهي لغة، اعتمدت على ربط، سلسلة من الاصوات، التي لا تحمل معنى ذهنيا واضحا، في شكلها اللغوي، كلغة مدلولية، بل لها سياقها اللحني والموسيقي، من خلال الإيقاع والنبرات، التي تزخر بتلميحات، تجعل سامعها، يخمن ويحدس المغزى فيها. ويمكن أن يشبه انجاز التعبير، بالإيماءة الصوتية، كالإيماءة الجسدية ، لتجسيد الصور التعبيرية .

ومسرح داريو فو، يعتمد على المفارقات، والحالات، والحوارات المألوفة، في مسرح الكوميديا، استقاها فو، من النصوص الشعبية، ولكنه وظفها للحياة المعاصرة. وتميزت نصوصه، بنوع من البناء النصي، الشبيه ببناء مقاطع المهرج، الذي يزاول فنه في السيرك، والساحات العامة، من خلال الثمتيل الإيمائي، واستخدام الحاجات الشيئية، والحالات الطارئة مع المتفرج، كعناصر من أجل خلق، نسق تمثيلي مضحك. عن كتاب مسرح داريو فو، ترجمة الدكتور قاسم بياتيلي، في طبعته الاولى لعام 1999م، والصادر عن دار الكنوز الادبية ببيروت .
- حرقة الأسئلة أقبل عبارة " الشعر الملتزم "، عندما يقصد بها الكتابة، التي تنخرط في علة وجودها، تستمر إلى منتهى مغامرتها، تلك التي لا تخشى، إعادة النظر في ذاتها، و لا حرقة الاسئلة .

ان الكتابة الملتزمة، هي تجربة إبداعية متطرفة في شموليتها. في العملية الابداعية، لا يتم الالتزام، مثلما يكون الانخراط، في جمعيات إحسانية، يكون المرء ملتزما أولا في وظيفته، أي وظيفة مبدع، يسعى للتحكم في الواقع، الذي يرتوى منه، كي يغير الوعى به، يكون المرء ملتزما بالصحو، الصحو الذي لا يرحم، لكن أيضا بالأحلام، ضد البربرية المتعجرفة، انطفاء الأعين، تعقيم القلوب والأيادى الخصبة .

لقد اكتشفت أمرا بالغ الأهمية:فرغم كل المحددات الاجتماعية، والاقتصادية، والإيديولوجية، والثقافية، فإن المرء يتوفر، على حيز لا يستهان به، كي يشيد شخصيته الخاصة به. إن فينا إذا: مثلما يكون شعاع حرية، مسجل في قلبنا ووعينا. لا شيء في الوجود، يمكنه أن يفسد، أو يحول اتجاه هذا الشعاع، اللهم إلا إذا قررنا نحن ذلك. إن شعاع الحرية هذا، هو الذي يتيح لي الآن، أن أعرف الإنسان، من حيث هو اسم جنس، الإنسان الحقيقي إذا شئتم، ذلك الذي يشعر بنفسه، معنيا بمغامرتنا على الأرض. هكذا قال الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، في كتابه حرقة الاسئلة، الصادر عن دار توبقال، الطبعة الثانية 1990م .