Atwasat

حين تصاب الديمقراطية بالرشْح

سالم العوكلي الثلاثاء 07 ديسمبر 2021, 09:12 صباحا
سالم العوكلي

راديكاليون بامتياز من لا يرون من الألوان سوى الأبيض والأسود، ومن الأرقام سوى الواحد أو المائة، أعني هذه الشعوب التي تتعلم المشي في طريق الديمقراطية الطويل والشاق، راديكاليون في كل شيء وحتى في هذا الابتكار العظيم الذي قلب هرم السلطة العتيد وجعل القاعدة الشعبية هي السلطة الأعلى في الأمم التي عنَّ لها أن تموطن الإنسان وتعيد له كرامته الإنسانية وقيمته السياسية. وهذه الراديكالية تجعلنا في انتخابات الرئاسة العربية الفصيحة، إما أن يترشح لها شخص واحد أو يترشح لها 100 شخص، وفي الحالتين ثمة سخرية من هذا الابتكار العظيم، وكم من المرشحين أصابوا الديمقراطية بالرشح.

دون حتى أن نقصد يتحول كل ما هو جوهري إلى كوميديا، وتصبح النكتة الشائعة طريقتنا في النقد، وتجد البرامج التلفزيونية الساخرة مادتها الدسمة في هذا الواقع السياسي المحتشد بالهزل، حيث لم يعد حل لهذه الشعوب إلا في التنفيس عن أزماتها التي تتراكم عبر التاريخ والتي أصبحت اقرب لأن تكون قدراً أو لعنة. في برنامج ساخر في إحدى القنوات العربية التي تبث من لندن قُدمت الانتخابات الرئاسية في ليبيا كفقرة ساخرة حد الألم، لكنها سخرية وجيهة وللأسف، حين جعل منا متصدرو المشهد مجرد نكتة تُروى على هامش التاريخ.

من الممكن أن يقسم متابع المترشحين لمنصب رئيس ليبيا إلى عدة أبعاض، لكل مصلحته الخاصة التي غالبا لا تتقاطع مع أي مصلحة عامة، وتتحول البرامج إلى شعارات عاطفية تتوجه إلى ناخب يدركون أنه عاطفي حتى النخاع: بعضٌ ترشحه الكوميدي يجسد هذه السخرية من الديمقراطية لدرجة أن يجد ممثل كوميدي نوعا من الاتساق الطبيعي مع هذا الوضع ويرشح نفسه، وبعض مازال يرى أن الصندوق قد يكون طريقا آمنا للاستبداد بعدما أصبح العصر شديد التهكم من فكرة الانقلابات المباشرة التي يتوجه إليها إنكار دولي وتهديد بالعقوبات مثلما تُدان العمليات الإرهابية أو حالات اغتصاب القُصّر، وبعض قد لا يسخر من الديمقراطية ولا يسعى لبناء صرح الاستبداد من جديد، لكن لا نعرف عنه شيئا ولا نعرف ماذا يريد، وجميعهم جريء في رغبته في تقلد أعلى منصب في هذه الأمة االحائرة رغم أنه لا يملك أي خبرة سياسية أو اقتصادية أو قانونية، أو حتى اجتماعية. وتتأتى جرأته حد الصفاقة من إدراكه أن لا مشكلة في أن يشغل أعلى منصب في دولة تعودت عبر عقود على أن يكون نظام التفاهة في واجهة طبقتها السياسية ونظام السفاهة في واجهة آلتها الإعلامية االمطبلة للتفاهة، والأكثر من ذلك أن طبيعة هذه المنظومة التي مازالت (ما دون الدولة) لا تعري الجاهل حين يتقلد منصبا حساسا، لأن "منظومة العمل فيها صممت باتقان بحيث لا تعمل" كما قال الخبير الاقتصادي بورتر في وصفه لمنظومة العمل في ليبيا منذ عشرين سنة، وظل الحمقى يتوارثون قيادتها طيلة نصف قرن دون أن تظهر هذه الحماقة أو الجهل في أدائهم في دولة معتمة تستر فيها عباءة النفط السوداء أي فشل ذريع أو إخفاق سافر.

كما تتأتى هذه الجرأة في الترشح للرئاسة من وهم دارج يدعمه جهل بتاريح الثورات بأن الربيع العربي مجرد فصل وانتهى، أو فقاعة حامت قليلا في هواء هذه المنطقة القائظة، وبدءوا يرتبون أوراقهم للعودة إلى سكون ما قبل هذا الحراك، وباعتبار أن الناس تولد لديهم حنين إلى الطغيان بعد أن أخلفت الثورات وعدها ونسوا أن الثورات لا تعد بشيء لكن فضيلتها أن تعكر أمواه التاريخ الذي رسخ مبدأ الطاعة حكمة في هذه الأمم التي كانت تشبه البرك العطنة، لكن توقعاتهم خاطئة، وهذا ما يخبرنا به التاريخ، فهذه الشعوب لن تعود كما كانت قبل هذا الزلزال برغم أن ثمة الكثيرين يحنون إلى الدكتاتورية العارمة أو الفوضى العارمة لأنهم لا يستطيعون أن يكسبوا رزقهم إلا بالنفاق أو بالفساد، وهم ليسوا قلة، ومثابرون في عملهم من أجل العودة إلى زمن البِرَك الساكنة، أما الكثرة التي مازال الحلم يشكل جزءا من عقيدتهم فإنهم متوارون خلف الخوف من المسؤولية والخجل من المشاركة في هذا الصراع الذي يتصدره التافهون.

في فلم "قبل غروب الشمس" يسأل أحدهم صديقته العاملة في مجال البيئة في فرنسا عن ظروف عملها فتجيبه أنها سيئة جدا، فيستغرب متسائلا ما إذا كانت الحكومات أو السلطات الرسمية تساعدهم، فتقول المشكلة أن السيئين هم من يتجرءون على المناصب والجيدين بطبيعتهم لا يحبون الأضواء والمناصب فيصبح الوضع سيئاً.

قد يبدو هذا الرأي غريبا في توصيف لعمل مهني في دولة مثل فرنسا، لكنه ينطبق على الجميع، وفي مجتمعاتنا من الممكن أن نضاعف نسبة السوء لمن يغامرون بتقلد مناصب في مجتمعات لا دولة فيها من الأساس، لذلك نرى في الانتفاضات الأخيرة المطالَبةَ المُلحة بتنحي كل الطبقة السياسية الفاسدة التي جاءت عبر الانتخابات مثلما كان الهتاف السابق المطالبة بإسقاط النظم التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية، وحتى في بعض الدول التي مشت خطوات فيما نسميه مجازا بالديمقراطية استمرت المطالبة بسقوط كل من أفرزتهم هذه العملية الاستفتائية، لأنها أقرب لأن تكون ديمقراطيات إقطاعية تسيطر عليها عائلات وميليشيات كما في لبنان والعراق أو يسيطر عليها العسكريون كما في السودان والجزائر، أو عمائم كما في إيران، أو تنظيم ديني كما في تونس، أو كل هذا مجتمعاً كما في ليبيا، عائلات وميليشيات وجماعات دينيةـ وفي الأحوال جميعها، وأمام هذا الانسداد لا يجد المجتمع الدولي وصفة لدولة تنهار سوى الروشتة الجاهزة: العودة إلى الحوار رغم أنه لم يبدأ من الأساس، أو الذهاب إلى الانتخابات والتهديد بعقوبات على من يعرقل المخرجات التي فرضها المجتمع الدولي، وغالبا ما يكون التهديد بتجميد أرصدة أشخاصٍ أموالهم موجودة في خزائن فولاذية، أو المنع من السفر لأناس يديرون عصابات محلية ولا يسافرون أصلا.
حقيقةً، قائمة أغلب المرشحين في ليبيا لمنصب الرئاسة تسخر من المجتمع بل وتحتقره، وكثير من الأسماء تهيننا وكأننا قطيع اختباري لتعليم طرق الرعي، ولا ثمة احتقار لهذا المجتمع أكثر من أن يتقدم مرشحون لديهم سوابق إجرامية ومطلوبون للعدالة، وأشخاص لهم قضايا فساد لم يُبت فيها، أو أشخاص لم نسمع بهم في أي إدارة أي شأن من الشؤون العامة من قبل، أو شخصيات سبق لها أن تقلدت مناصب وهي من أوصلت هذا البلد إلى لحضيض، إنهم لم يقدموا برنامجا نظريا أو مكتوبا ولكن سبق أن قدموا برامجهم العملية الفاشلة بامتياز ومازالوا مصرين على الترقي والاستمرار، أو أشخاص وصلوا اساسا لمناصب كبرى عبر الرشى والمال الفاسد وسخروا هذا المنصب وأموال الدولة للدعاية لهم دون أي وازع أخلاقي، ومعظمهم لا برامج لهم سوى أنهم جريئون حد البلادة، ومغامرون في نظام سياسي لا خبرة له في تقنيات الفرز بين العملة الجيدة والرديئة، والناخب المسكين لن يكون أمامه سوى المفاضلة بين السيء والأسوأ إلا ما ندر جدا، أو المقاطعة التي سيُنظر لها كخيانة أو عرقلة للمسار الديمقراطي، بينما من يستحقون هذا المنصب يواريهم الخجل من الانغماس في هذا المشهد الكوميدي، أو يجعلهم مبدأهم الأخلاقي خائفين من هذا المنصب الذي يحُمِّلهم مسؤولية كبرى، بينما الجريئون يدركون في قرارة أنفسهم بأن هذا المنصب الكبير لا يستلزم بالضرورة أي مسؤولية، وهم يعرفون أن البلد حكمها فرد واحد طيلة أربعة عقود وهو يتنصل من أي مسؤولية رغم امتلاكه المطلق لكل الصلاحيات، وحكمتها أجسام هزيلة بعد فبراير لا تعرف معنى المسؤولية التي تجعل الإنسان السوي يخاف من المنصب. وهذا التراث من العبث السياسي مازال يغري الأتباع بالسير على الفرش الأحمر من جديد، ويستدعون أشباح الماضي كأي قطيع تائه. تقول جين كولاتا في وصفها لمثل هذه القطعان البشرية: "تستثير فكرة وجود بشر غير متمايزين اجتماعيا كوابيس مروعة. أشرطة الحرب الوثائقية الأكثر إرعابا ليست تلك التي تعرض أجساد الناجين الهزيلة أو السحب الفطرية فوق هيروشيما وناجازاكي، بل جموع الألمان الرافعين قبضاتهم هاتفين بالنصر للنازية. الأكثر ترويعا هو سيكولوجيا الرعاع التي تجعل من الأفراد مجرد نسخ متماثلة، لا ترتاب فيما تقوم به السلطة وليست لديها آراء مستقلة. إنه مرتبط بخوفنا من الجماعات التي يسهل التلاعب بها ويمكن أن تصبح جموعا عاطلة عن التفكير وأن تُسخَّر أداةً للقمع.".

غير ان التفكير في العودة إلى ما قبل العام 2011 وهم كبير ، لأن الكتلة البشرية التي كان من الممكن أن يضع الدكتاتور قدمه فوقها وهو يتغنى بالشعب والوطن والحرية وفلسطين والمقاومة ما عادت موجودة، وأن حرية التعبير والنقد وحتى السخرية أصبحت في متناول الجميع بعد ثورة المعلومات والتقنية الكبرى، وأن قداسة الحاكم أصبحت خيالا من الماضي، ويثبت هذا أن مقاطع الفيديو الساخرة من المرشحين تطغى على دعاياتهم الانتخابية، والسخرية نقيض التقديس على مر الزمن، فزمن الحاكم الإله الذي لا يُنتقد ولا يُمس ولى ، وأصبح التندر بالزعماء والرؤساء وحتى رجال الدين مهنة هذه الأجيال الساخرة. وهذا ما يجعلني أتابع بغبطة البرامج الساخرة من الطبقات السياسية التي قررت أن تكون المادة الخصبة لها.