Atwasat

11 - سنة أولى جامعة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 06 ديسمبر 2021, 09:57 صباحا
محمد عقيلة العمامي

أعترف أنني أخذت بكتابات الكاتب البديع أنيس منصور السهلة الممتنعة، منذ أن قرأت له كتابه 200 يوم حول العالم، الذي بلغت إعادة طبعه أرقامًا قياسية. أما الطبعة السادسة، من كتابه: (عاشوا في حياتي) مازال بجانب مقعدي المسائي المفضل، منذ أكثر من ستة أشهر، غالبًا ما أعيد قراءة مقال يعجبني، فمثلًا: مقاله «طه حسين مسح بنا الأرض والسماء أيضًا» يتحدث فيه عن زيارة سعى وزملاؤه الطلبة فيها للقاء الدكتور طه حسين، وسألهم، ثم سأل أنيس منصور عن الكثير من الأسماء الأدبية المعروفة إن كان يعرفها فكانت إجابة أنيس منصور: «لا!» ثم سأله:
ماذا تريد أن تكون في مستقبلك؟

أريد أن أكون كاتبًا..
إذن لا بُد أن تحفظ لهم، والذي تحفظه لا بُد أن تدرسه، وتحلله بعد ذلك، ولا تكتب سطرًا واحدًا. اجعل الكتابة آخر نشاطك. اقرأ واحفظ وافهم.
إني أحفظ القرآن الكريم.

هذا شيء مهم جدًا، وهذا إنجاز عظيم، بقي أن تفهم القرآن أيضًا، والذي فعلته مع القرآن الكريم يجب أن تفعله مع الشعراء والأدباء والفلاسفة. احفظ ثم افهم وادرس.. بعد ذلك اكتب».

وهذا ما حدث معي، على نحو ما، فبعدما عدت من اليونان إلى بنغازي بعد شهر أو شهرين، من شهر يونيو سنة 1967 بضلع، وخاطر مكسورين؛ فلقد كنت رفقة صديقي الراحل رافع جعودة وصديقي علي هويدي بالروين أطال الله عمره ومتعه بالصحة، نقضي إجازة في جزيرة رودس. كنا في مقهى، أو بمعني أصح، مطعم وجبات ومشروبات خفيفة، وغير خفيفة!. احتد نقاش ما بيني وبين شاب أميركي عما حدث يوم 6 يونيو 1967 ما بين مصر وإسرائيل، وهي تلك الهزيمة التي أدمت قلوب شباب العالم العربي، المأخوذين بوعي أو بغيره، طوال فترة صباهم وشبابهم بالعروبة ووحدتها. قلت للشاب الأميركي: «إن لم تصمت فسوف أقوم لك».. فقال ساخرًا: «مثلما قامت مصر لإسرائيل».. فقمت كأسد، وصحوت في قسم العظام بمستشفى رودس! كانت الجامعة قد ابتدأت، ووصلتها أعرج ولكن دون عكاز، فلقد تخليت عن العكاز بمجرد أن ذهبت إلى الجامعة.

وكأنني أعرف الدكتور محمد علي العريان، تمام المعرفة، من حكايات عبدالحميد البرعصي، وطلوبه الريشي ومحمود شمام عنه، فما إن وصلت الجامعة حتى جلست أمامه في مكتبه، رفقتهم، وما انصرفنا منه إلاّ وأنا أحد أصدقائه، وسريعًا ما أصبح صديق سي عقيلة والحاجة وافية أيضًا. وأصبح يقضي أماسيه معنا أمام دكان البقالة الذي حل محل قهوة سي عقيلة.

سنة كاملة يندر ألا نلتقي يومين متتاليين. وكانت له آراء في بعض أساتذتنا، وكنت أخالفه الرأي في بعضهم، كان من ذلك النوع الذي يساندك أن تدافع عن آرائك حتى لو كان يخالف آراءه. كان مأخوذًا بالفيلسوف الأميركي الشهير وليم جيمس، وأخذنا نحن به أيضًا، فلقد كانت فلسفته هي المنهج الذي درّسه لنا في سنتي الأولى في مادة علم النفس، أما في سنتي الثانية، كان قد منح 48 ساعة ليغادر ليبيا وهو والدكتور توفيق رشدي، والدكتور عبدالرحمن بدوي، وكان الثلاثة أصحاب نظريات تقدمية لا تتفق وحكم العسكر، ولذلك كان قرار رئيس مجلس قيادة ثورة سبتمبر، الذي كان يرصد أفكارهم عندما كان طالبًا منتسبًا بقسم التاريخ.

لم أخبره بأنني أريد أن أصبح كاتبًا مثلما حدث مع أنيس منصور، وإن كانت رغبتي في الكتابة كجمرة تحت الرماد، ولكنني أخبرته أنني أريد أن أخرج بعائلتي من دائرة الفقر، وحينها سوف ألحق على كل ما أتمناه بعد ذلك. وكانت نصيحته لا تتوقف مهما حدث، فالأمور عندكم - يقصد في ليبيا - ميسرة ولا تحتاجون إلاّ إلى الاجتهاد والتصميم، وأكد على أنه سيكون بجواري ويساندني على طول الطريق، ولكنهم قطعوا الطريق عليه!

كان ذكيًا لماحًا، وانتبه إلى ميلي نحو طالبة كانت قريبة منه، وصارحني بأنها من أفضل الطالبات، وبذكاء الحكيم اللماح انتبه إلى الفرق المادي الشاسع بيني وبينها، أخذ ينبهني بذكاء إلى أنها في سنتيها النهائيتين، وأنها ليست من مدينتي، ناهيك على أنه من الصعب عليها أن تعيش معكم في «دار ومربوعه» وظلت دبابيسه، توقظني باستمرار من حلمي اللذيد. لم يترك فرصة واحدة من دون تنبيهي! وقد نجح إلى حد كبير، فالحب مثلما قال أسمى من الأنانية، وبالتأكيد أن من يحب يتطلع إلى هناء وراحة محبوبه، وعلى الرغم من تظاهري بأنني مقتنع برأيه، وأن ما يراه مني ليس أكثر من إعجاب بإنسانة رائعة.. وكانت بالفعل ملاكًا رائعًا يستحق هناء الدنيا والآخرة أيضا! ومن بعد أن غادر وتواصلت المراسلات بيننا، اعترف بعدما تقابلنا أنه كان يدفع بها بعيدًا عني ويخبرها عن كل الجوانب التي لم تكن تعرفها عني، وهي تهور الشخصية الأخرى التي عرفها عني بعدما أصبحنا أصدقاء، فلقد حضر سهراتنا، وأصبح أحد رفاقنا حتى أنه علمنا أمورًا ما كنا نعرفها! خصوصًا في لعب الورق، الذي كان في ذلك الوقت هو أفضل مشاريع السهرات الرمضانية، البعيدة عن المساجد!

كانت أول محاضرة جامعية لي، في مدرج رفيق، الذي أخذت به حينما دخلته أول مرة، وكانت الصفوف الأمامية منورة، بهيجة بفتيات في عمر الزهور جمعتني بهن ولأول مرة في حياتي «مقاعد دراسية». ومنذ ذلك اليوم انتبهت إلى ألفاظي، وسلوكي، وأيضًا قيافتي في حضورهن! والحقيقة أن هذا السلوك لم يكن تفردًا مني أنا فقط؛ ولكنني من بقية الزملاء الذين كانوا حينها 560 طالبًا وطالبة، وكان حينها رقمًا رهيبًا كبيرًا للغاية.

وكانت محاضرة في علم الاجتماع استهلها الدكتور محمد خيري محمد علي بتحذيرنا من أن العمر يجري وسرعان ما تجد نفسك منذهلًا من سرعة قطار العمر، وكرر التنبيه على أن نستمتع بشبابنا قبل فوت الأوان. وأذكر الآن وكأن الأمر من ساعتين، حين مال نحوي رفيقي عبد المجيد الدرسي وقال بخفوت، وهو مثلي لم ينتبه حينها إلى أن قطارنا نحن أيضًا، يفوت!: «يبدو أنه يشعر باقتراب حط المذاري على التبن». كان الدكتور محمد خيري حينها في مطلع الستينيات، وكنا نراه عجوزًا، وها نحن نقترب من الثمانينيات ولا نشعر أبدًا لا بالتبن ولا بالمذاري، ولا حتى القطارات المنطلقة في الاتجاهات كلها!

منذ تلك المحاضرة أحببت الدكتور محمد خيري، وظل هو والدكتور فوزي جاد الله أستاذ التاريخ الليبي يرون فيّ طالبًا نموذجيًا ويحاولان أن يجعلا مني أحد طلاب قسميهما، وكدت بالفعل أن أكون طالبًا في قسم التاريخ. ولكن كان للدكتور محمد علي العريان أستاذ علم النفس رأي آخر، ولأنه أصبح بمثابة الأب الروحي، وضع في رأسي فكرة مفادها أن علمًا بلا لغة غربية، هو مجرد معلومات ستظل كما هي في ذهنك، مجرد مخزون معلوماتي لا فرصة له في التطور، وأنني لن أستطيع مواصلة دراسة عليا إلاّ باكتساب لغة أخرى، فلماذا لا أقتصر الطريق وأتخصص في اللغة الإنجليزية، مثلًا، وبالتالي أنطلق في أي مجال يعجبني، ولكنه لم يكن يعلم أنني لا أعرف الفرق ما بين ( IS وARE ) وتلك مسالة أخرى سنقف عليها لاحقًا.