Atwasat

التحطيب وأحفاد النار

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 05 ديسمبر 2021, 10:08 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

مثل اكتشاف الإنسان الأول النارَ أول نقلة كبرى في تاريخه دفعت به بقوة للخروج من المملكة الحيوانية إلى المملكة الإنسانية. فاكتشاف النار كان خطوته الأولى على طريق الحضارة. إذ مالبث بعد هذا الاكتشاف أن ابتكر طرقا للحفاظ عليها متقدة، ثم اخترع أدوات لإشعالها متى ما شاء.

وفي ثقافات العديد من الشعوب أساطير حول كيفية حصول الإنسان على النار، لكن أشهرها قاطبة هي أسطورة بروميثيوس اليونانية. يعني اسم بروميثيوس "بعيد النظر" ويمتلك القدرة على التنبؤ بالمستقبل. كما أنه عملاق وشبه إله. عهد إليه زيوس، كبير آلهة اليونان، بخلق البشر، فصار لديه حب شديد لمخلوقاته وعناية بالغة بهم، وعندما استأثرت الآلهة بالنار دونهم وعانوا شدة البرد، قام بروميثيوس بسرقتها وإهدائها للبشر. والتفسير السائد لمحتوى هذه الأسطورة أن النار ترمز إلى المعرفة التي أرادت الآلهة الاستئثار بها دون البشر، لأن المعرفة لب ما يميزهم. كما أن معنى اسم بروميثيوس "بعيد النظر" وملكة التنبؤ بالمستقبل التي يتوفر عليها يقترنان بالمعرفة، فكأنه بوهبه النار للبشر نقل إليهم جوهره الحقيقي، أي المعرفة. وارتباط النار بالنور والإنارة يعزز هذا التفسير.

استفاد الإنسان الأول من النار في التدفئة والإضاءة وحراسة الكهف من الحيوانات أو مواجهتا، كما لاحظ تاثيرها الإيجابي في تسهيل تمزيق اللحم بأسنانه وتحسين طعمه وتفتيته بأصابعه إذا انشوى عليها.

هذا الاكتشاف كان وراء استحداث نشاط جديد في النشاط الإنساني المعيشي، ألا وهو التحطيب. فللمحافظة على النار مشتعلة كان لزاما عليه تغذيتها بكميات كبيرة من الحطب الجاف والقش. وكانت هذه، غالبا، مهمة النساء والأطفال. كان مصدر هذه العملية في البداية التقاط ما تناثر على الأرض من عيدان وأغصان جافة ونباتات متيبسة. لكن، لكثافة الاستهلاك، أصبح هذا المصدر شحيحا لا يفي بالحاجة. فلجأ إلى اقتطاع ما يستطيع من أغصان الشجر واقتلاع الشجيرات وتجفيفها لاستخدام الحطب المتحصل وقودا.

عملية التحطيب هذه تحسنت باختراع الإنسان الأول الفأس الحجري. فالفأس، يمكن القول، حفيدة النار (على اعتبار أن عملية التحطيب ابنتها المباشرة).

لكن القفزة الكبيرة في نشاط التحطيب، بعد استقرار الجماعات الإنسانية في القرى الزراعية واكتشاف المعادن والتمكن من اختراع تكنولوجيا لصهر المعادن وصناعة الأدوات منها، تمثلت في اختراع الفاس ذي السلاح الحديدي والمقبض الخشبي القصير المعد للاستعمال الفردي.

في نص لي من كتابي "أشتات الذات: سرديات العمر" (منشورات دار الرواد. 2021. طرابلس.) بعنوان "حشرجة الصفصاف" كتبت أنه بعد اختراع هذه الفأس "لم يعد على المرء جمع الأغصان الساقطة الجافة ولا إتعاب يديه في نزعها من الشجرة، إذ أصبح بمقدوره، بفضل هذا الاختراع، إسقاط شجرة، تقف شامخة متأبية، بكاملها في وقت وجيز، وتركها تيبس لاستخدامها وقودا. فاختراع الفأس قلل الجهد والوقت المبذولين لإعداد الطعام!

بهذا يكون الإنسان قد اخترع سلاحا يكسر مهابة الشجرة وعجرفتها، وإن شئت، يهين كرامتها".
اكتشاف النار وابتكار طرق واختراع وسائل إلى التحكم فيها، واكتشاف إنضاجها للحوم وتحسين طعمها، جعل الإنسان، بعد استقراره في القرى الزراعية، يفكر في عملية الطبخ. وهذا التفكير هداه إلى اختراع الأواني الفخارية والصحون وأوعية حفظ الماء وشربه، من الفخار الذي تدخل النار في إنضاجه.