Atwasat

بحرُ المانش المتوسط !

جمعة بوكليب الخميس 02 ديسمبر 2021, 10:33 صباحا
جمعة بوكليب

في الأسبوع الماضي، ومباشرة عقب اليوم التالي، الذي حملت فيه الأخبار غرق 27 مهاجراً في بحر المانش، جاءوا من بلدان مختلفة آسيوية وشرق أوسطية، كانوا على متن قارب مطاطي في طريقهم إلى الضفة الانجليزية، خرج عدد صحيفة التايمز اللندنية برسم كاريكاتوري، لخّص مأساة الهجرة غير الشرعية على نحو لا يقارن. وباختصار، حوّل الرسام القارب المطاطي إلى كفن خشبي، يمخر عباب البحر، وعلى متنه مهاجرون. وكتب باللغة الانجليزية معلقاً: (To the bitter end) بدلاً من (To the better end).

كلمة " Better" التي تعني أحسن أو أفضل تغيرت إلى "Bitter" وهي صفة غير إيجابية تعني مرارة -عنيف - شديد. التغيير قلب المعنى الأصلي المعروف من "إلى نهاية أو غاية أفضل" ليصبح "إلى نهاية أو غاية مريرة." النهايات المريرة لا تحتاج إلى قواميس لشرحها. ولا يختلف حولها بشر. الاختلاف، فقط، ينشأ حول من يتحمّل مسؤولية حدوثها.

التقارير الإعلامية ذكرت أن نائباً من حزب المحافظين وضع المسؤولية على كاهل منظمات الإغاثة الإنسانية الدولية المتولية أمر إنقاذ المهاجرين من الغرق، بزعمه توفيرها قوارب، على شكل سيارات أجرة بحرية (Sea Taxis)، لنقل المهاجرين. البريطانيون يتهمون الفرنسيين ويحمّلونهم المسؤولية. والفرنسيون يكيلون لهم الكيل مضاعفاً. وفي ذات الوقت، تواصل قوارب المهربين شحن المهاجرين عبر البحر، متجهة تحت جنح الظلام، إلى الشاطئ الإنجليزي.

لعبة الموت هذه، أبطالها مهربون. وضحاياها مهاجرون. والمنتجون عدة، يجيدون التحدث عن حقوق الإنسان من دون تلعثم، ويتعهدون، في وسائل الإعلام، بحمايتها والدفاع عنها بأساطيلهم وجيوشهم.

المهربون هدفهم جمع الأموال، وما يحدث من كوارث لا يقع ضمن دوائر اهتماماتهم. والمهاجرون هدفهم عبور البحر والوصول سالمين إلى انجلترا. وغير ذلك من أمور لا تعنيهم. اللعبة لن تتوقف، لأن المهاجرين لن يتوقفوا عن الهروب من أوطانهم بحثاً عن حياة أفضل. وبالنسبة لهم، فإن محاولة عبور البحر، والموت غرقاً على أمل تحقيق حياة أفضل خيرٌ من انتظار نهاية مريرة في أوطان منهوبة، وموبوءة بالحروب، وبالأمراض والعلل الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية.

الفرنسيون في وضع مختلف عن البريطانيين في هذه الأزمة، لأنهم يتخلّصون من مهاجرين لا يريدون البقاء في فرنسا، وسببوا لهم مشاكل اجتماعية وبيئية، ويفاقمون من سوء الأوضاع للحكومة. كما أن فرنسا غير ملزمة بردهم وفقاً لاتفاقية دبلن، لأن بريطانيا الآن ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي. في حين أن البريطانيين في وضع لا يحسدون عليه. والسبب أن من أهم أهداف حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي هدف الحد من الهجرة، باستعادة السيطرة على المنافذ الحدودية. وها هي حكومة السيد بوريس جونسون تجد نفسها في مأزق لا مخرج منه. إذ ليس بوسعهم السيطرة على آلاف يأتونهم واصلين أسبوعياً، على قوارب مطاطية من الضفة الفرنسية. والأعداد تتفاقم باستمرار، حتى صارت مدعاة لقلق الحكومة والحزب الحاكم وأنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي جميعاً. وهناك خوف من انعكاس ذلك القلق إلى ما هو أسوأ، خلال الانتخابات النيابية القادمة. والحلول المطروحة من وزارة الداخلية البريطانية ظلت تدور في حلقة مفرغة لأنها جميعا تعتمد على أن تقوم فرنسا بدور جهاز شرطة متخصص في حماية بريطانيا من المهاجرين. ولم يبق لدى السيدة وزيرة الداخلية البريطانية سوى الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام تفتقد لغة الدبلوماسية، ضد حكومة باريس. وردت باريس على ذلك، بسحب دعوة رسمية وجهت إليها بعد الحادثة لحضور مؤتمر طاريء، دعا إليه وزير الخارجية الفرنسي كل وزراء أوروبا المتضررة بلدانهم من الهجرة. رقعة الخلافات تتسع بين البلدين، والهوّة بينهما صار من الصعب تجسيرها، في مناخ ملبد بسوء النوايا.

الرئيس ماكرون من جانبه، بعينين على الانتخابات الرئاسية القادمة في شهر أبريل 2022، قال في تصريح تعليقاً على حادثة الغرق إنه لا يريد لبحر المانش أن يتحول إلى مقبرة. ولم يشر ولو عرضاً إلى المقبرة الأخرى، في البحر المتوسط، التي تبتلع العشرات من المهاجرين!
المتابعون للساحتين السياسيتين، في كل من لندن وباريس، يدركون أن جذور الأزمة الحالية زرعت بذورها خلال أزمة الـ "بريكست". وأن استياء فرنسا من الخروج البريطاني ليس خافياً على أحد، لخوفها من أن نجاح بريطانيا خارج الاتحاد قد يشجع أعضاء آخرين على الخروج. إضافة إلى استيائها من تراجع بريطانيا عن الاتفاق التجاري، ومطالبتها بإعادة استئناف المفاوضات بما يضمن عدم الإضرار باتفاقية السلام في إقليم شمال ايرلندا، وكذلك تجاهلها لمنح تراخيص لصيادي السمك الفرنسيين للصيد في مياهها الإقليمية حسب اتفاق الخروج. الرئيس الفرنسي ماكرون رفض انعقاد لقاء القمة بين الحكومتين، الذي يعقد منذ عام 2010، مرّة كل سنتين، بزعم أنه لا جدوى من انعقاده. الأمر الذي أقلق حكومة لندن. ولم يعد أمام البريطانيين سوى انتظار حدوث معجزة لوضع يزداد تعقيداً، بأمل الوصول إلى تفاهم دبلوماسي يتكفل بنزع فتيل التوتر مع فرنسا، ويضمن بقاء واستمرار البحر المتوسط فقط مقبرة للمهاجرين!