Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (1908-1969) (12)

سالم الكبتي الأربعاء 01 ديسمبر 2021, 12:04 مساء
سالم الكبتي

.. وفي الأساس ظل الدستور الذي أصدرته الجمعية الوطنية مرجعية مهمة يستند إليها وعنوانا لوحدة ليبيا والليبيين وظل أيضا قاعدة نهض عليها ووقف قانون الانتخابات الذي تقدمت به الحكومة الأولى وأجازته الجمعية بعد صياغة الدستور. فلا انتخابات ولاحياة برلمانية صحيحة وسليمة بدون دستور.

وتلك الأيام قبيل الاستقلال ظل الملك أيضا يتلقى عن طريق ديوانه العديد من الطلبات والعرائض من كافة مناطق ليبيا من الأعيان والشيوخ ورجال القبائل والمدن ضمنوها رغبتهم في أن يعينهم أعضاء في مجلس الشيوخ المنتظر. ولم يستجب في الواقع كثيرا لهذه الطلبات. ربما اختار البعض وعينهم بالتشاور مع الولاة وبحكم معرفته الشخصية للكثير منهم وتم حفظ بقية الطلبات!!

.. فكيف أجريت الانتخابات ونظمت؟
البداية كانت بصدور أوامر انتخابية في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر 1951 من وزير العدل وهو في الوقت نفسه السيد محمود المنتصر رئيس الحكومة التي لم تزل مؤقتة في ذلك. هذه الأوامر صدرت منه بمقتضى المادتين الحادية والعشرين والسادسة والخمسين من قانون الانتخابات.. صدرت إلى مأموري الانتخاب في دوائر الانتخابات في المدن وكذا إلى المراقب العام للانتخابات بالنسبة إلى دوائر الريف الانتخابية وعلى هذه الإجراءات تمت تسمية المرشحين في ليبيا طبقا للأوامر المذكورة وطبقا للقانون في ظهر التاسع والعشرين من يناير 1952.

كان المراقب العام للانتخابات في ليبيا هو الشيخ محمود المسلاتي. وبدأت الانتخابات الأولى بعد الاستقلال وفقا للنظام الانتخابي والإجراءات واستنادا إلى الدستور بخطوات شملت مرحلة التسجيل ثم مرحلة الطعن ضد الناخبين ثم مرحلة الترشيح ثم مرحلة الطعن ضد المرشحين ثم مرحلة الاقتراع السري ثم مرحلة إحصاء الأصوات وإعلان النتائج النهائية على ضوئها. جرت الانتخابات في اليوم التاسع من فبراير 1952 في جميع الدوائر الحضرية والقبلية وأعلنت النتائج في اليوم التالي الموافق للعشرين من فبراير. والواقع أن الانتخابات شهدت تنافسا مرضيا في الغالب في مناطق برقة وفاز البعض بالتزكية وقدمت بعض الطعون بين المتنافسين وثمة من انسحب من تلقائه أثناء العملية الانتخابية وفي فزان لم تحدث أية التباسات أو صراعات في الدوائر الخمس التي تم الفوز في بعضها بالتزكية. وفي طرابلس وقع الاصطدام بوضوح في طرابلس المدينة ومصراتة وترهونة والزاوية وصبراتة وحصلت مظاهرات صاخبة وفقا للمصادر التاريخية (ليبيا الحديثة.. مجيد خدوري) بناء على نتائجها. هذا الاصطدام الواضح حصل بطريقة مؤسفة ولم تكن متوقعة في الانتخابات بعد الاستقلال مع رجال البوليس وأنصار حزب المؤتمر الوطني الذين لم يرضوا بالنتائج المعلنة وقتل البعض وجرح العديد من المواطنين.

كان التنافس الانتخابي في ليبيا يشمل 113 مرشحا في 35 دائرة في طرابلس فاز منهم خمسة وثلاثون مرشحا وفي برقة ستة وثلاثون مرشحا في عشر دوائر فاز منهم خمسة عشر مرشحا وفي فزان في دوائرها الخمس فاز خمسة مرشحين.

ومن التداعيات المؤسفة وغير المتوقعة التي آلت إليها الانتخابات في طرابلس عقب الاصطدامات الدامية والمواجهة بالسلاح بين الأنصار والبوليس اعتقل الزعماء الرئيسيين لحزب المؤتمر الوطني في اليوم الحادي والعشرين من فبراير 1952 واتخذت الحكومة قرارها بإبعاد زعيمه السيد بشير السعداوي إلى خارج ليبيا يوم 22 من الشهر ليستقر أولا في القاهرة ثم في بيروت إلى عام 1957 حيث توفي هناك. وكانت الحجة وراء الإبعاد أنه كان سببا في حصول المشاكل في دوائر الانتخاب ولم يرض بالنتيجة وفوق ذلك أنه كان يحمل جنسية سعودية ولم يعتبر مواطنا ليبيا!! وفي الوقت نفسه أبعد أيضا السيد أحمد زارم رئيس تحرير صحيفة الشعلة الناطقة باسم حزب المؤتمر إلى تونس بحجة عدم ليبيته وأقام هناك إلى عام 1962 وحدثت مصالحة بينه وبين الدولة في فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد الذي عينه مراقبا عاما للأملاك الحكومية في غريان ونتيجة لما جرى وحدث أصدرت حكومة السيد محمود المنتصر في تلك الأيام قرارا إداريا يمنع النشاط الحزبي أو تشكيل الأحزاب السياسية في البلاد وكما يذكر د. خدوري الخبير في شؤوننا الداخلية عن جدية واهتمام واقترابه منها فإن الأحزاب التي منعت وأغلقت (المؤتمر في طرابلس وجمعية عمر المختار في بنغازي.. وغيرهما) أخفقت في تحقيق أهدافها وكانت تسعى لتحقيق الاستقلال حيث شكلت قبل إعلانه وبهذا يكون سبب وجودها قد اختفى وزال بتحقق الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951.

والواقع أن السيد السعداوي كان يملك كاريزما وتقديرا في المناطق الغربية وكان لديه في السابق نشاط وطني وارتباط معروف في مرحلة المقاومة الوطنية في المنطقة الوسطى التي قادها السيد صفي الدين السنوسي وكان من الذين أسهموا في بيعة مؤتمر غريان للسيد إدريس السنوسي أميرا على ليبيا عام 1922 وكان أيضا من شهود مؤتمر سرت أواخر عام 1921 الذي عقد هناك سعيا للمصالحة والتوافق بين الأطراف الوطنية في الشرق والغرب وكلف من هيئة الإصلاح المركزية بأن يكون مندوبها لمتابعة خطوات وإنجازات المؤتمر فيما اختار الأمير إدريس أحد معاونيه في حكومة إجدابيا وهو السيد عبدالعزيز العيساوي ليكون مندوبا عنه وعن الحكومة المذكورة في تلك المساعي التي حققت نجاحا في واقع الأمر لوحظ وانعكس تلك الأيام على مسار الحركة الوطنية في البلاد الذي اعتمد بالدرجة الأولى التوافق وغلب مصلحة ليبيا فوق كل الاعتبارات الأخرى وكان خطوة تاريخية مهمة ينبغي أن يستفاد منها على الدوام. هذا إضافة إلى جهود السيد السعداوي مع زملائه المهاجرين في الشام في تكوين جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي ثم انصرافه بالكامل عن متابعة الشؤون الليبية حين ظل مستشارا للملك عبدالعزيز آل سعود كما أشرنا. وفي كل الأحوال فإن شخصية السيد السعداوي بما لها وعليها تظل أيضا خاضعة لأحكام التاريخ بتجرد وعلمية.

وتقييما لبعض هذه الجوانب أخبرني السيد عمر إبراهيم الشلحي مستشار الملك إدريس في عدة لقاءات معه كان آخرها عام 2014: (بأن السيد بشير السعداوي رغم إبعاده عومل معاملة كريمة وقد احترم نفسه ومكانته وتاريخه وظل كذلك طوال إقامته في الخارج ولم تصدر عنه أية تصرفات معيبة أو أعمال مضادة باتجاه بلده تسيء إليه وإلى شخصه. كان رجلا بمعنى الكلمة وكان على علاقة طيبة بالملك إدريس فيما أذكر أثناء الفترة التس سبقت الاستقلال. لقد حضرت مأدبة غداء أقامها له الملك في بيته في البيضاء عام 1950 بوجود الإعلامي العراقي المعروف يونس بحري الذي كان على علاقة بالملك. وللتاريخ ومن الناحية الواقعية فإن السيد بشير وغيره من الزعماء الوطنيين الذين يستحقون كل تقدير واحترام كانوا على الدوام رجالا وفي مستوى المسؤولية وأسهموا في تحقيق التوافق الوطني وحين أحسوا بخسارتهم في المعركة التي تدور مع الملك بالمواجهة أو من وراء ستار وشعروا بأنه الرجل الذي أجمعت عليه الأمة.. احترموا مواقفهم واحترموا الملك وأذعنوا للأمر الواقع وسلموا به دون أية حساسيات أو مشاكل).

وفي جانب آخر يذكر تغطية لبعض هذه التفاصيل فقد أخبرني أيضا السيد فتحي العابدية سكرتير الملك إدريس تلك الأعوام والدبلوماسي والسفير لاحقا في لقاءات عديدة معه تواصلت إلى عام 1999.. أخبرني مؤكدا بكل تجرد: (أن العلاقة الطيبة بين السيدين إدريس والسعداوي تعود إلى أيام الهجرة وكان هناك ود وتقدير بينهما في كل الأحوال وأن الخلل الذي حدث لاحقا في هذه العلاقة التي كان الكثيرون من المخلصين يتمنون أن تسير سيرا حسنا لما فيه صالح البلاد.. هو أن مثل هذه الزعامات والقيادات الوطنية لم ينظر إليها بعد الاستقلال نظرة صائبة. كان من المفترض إشراكها في المناصب العامة والاستعانة بها في النهوض بالتأسيس بعد الاستقلال احتراما لتاريخها ولمواقفها المشرفة رغم بعض الأخطاء أو التصرفات التي يمكن معالجتها وتجاوزها وكذا الشئ نفسه وقع مع أعضاء جمعية عمر المختار في بنغازي. وأذكر أن الملك كان في بنغازي أيام إجراء الانتخابات التي جرت بنزاهة وفقا لتقارير المراقبين الأجانب وأن القرار في حق السيد السعداوي اتخذ من قبل السيد محمود المتتصر رئيس الحكومة وتم تنفيذه. ولم يتدخل الملك من بعيد أو قريب في هذا القرار. والذي حدث أن أنصار السيد السعداوي حققوا نتائج بالفوز في مدينة طرابلس لكنهم أخفقوا في تحقيق ذلك في مناطق الدواخل التي فاز بها مرشحوا الحكومة فاستعملوا السلاح وحاصروا مراكز الانتخابات هناك وقاموا بتكسير الصناديق وواجهوا البوليس وسقط للأسف قتلى وضحايا دون مبرر).

ومع هذا كله فاز مرشحو حزب المؤتمر في المدن في مناطق الغرب من البلاد وكان من المفترض أن يكتفوا بذلك ولا داعي للأصرار على الفوز بكل المقاعد في مجلس النواب كما تشير التقييمات والآراء حول نتائج الانتخابات الأولى بعد الاستقلال. وقد ظلت هذه التداعيات مثار ظنون وشكوك واختلافات وبقيت تنهض أمام الباحث والمتابع لتاريخ الانتخابات دون أن تحسم في الواقع بنظرة علمية فاحصة حتى الآن في تقديري.

فماذا حدث أيضا في الانتخابات في برقة وإلى أين اتجهت الطعون بشأنها وكيف عولجت وفقا للإجراءات والتنظيمات المتبعة.