Atwasat

10- قبل أن تزهر شجرة اللوز

محمد عقيلة العمامي الإثنين 29 نوفمبر 2021, 10:03 صباحا
محمد عقيلة العمامي

«لمن أبُث أفراحي وأحزاني، أشواق الشباب السرية والوهمية؟ الصدام العنيف مع الله والناس؟ وأخيرًا الكبرياء الوحشية في الشيخوخة، التي تحترق وترفض حتى الموت ولمن أحكي عن المرات التي فيها انزلقت وسقطت وأنا أتسلق مندفعًا، في صعودي الوعر الشاق إلى الله، وكم هي المرات التي نهضت فيها مضرجًا بالدم لأعود مرة أخرى إلى الصعود.. - ومن يصدق غربتي وضياعي - حتى سألت شجرة اللوز: حدثيني عن الله يا صديقتي فأزهرت!»
- بتصرف من تقرير (نيكوس كازانتزاكس) إلى جده (غريكو).

ما زلت أذكر جيدًا، تلك الحيرة المبهجة، عندما أخذتني أنغام (البزوكي) اليونانية عندما تسكعنا للمرة الأولى في شوارع أثينا. كان صدى تلك الأنغام يبرز حسرة المغنين، الذيي لم نكن نعرف كلمات أغانيهم، التي تأتينا من هنا وهناك، من مقاه وبارات ومطاعم في أماسي منطقة (بلاكا) التي كانت في منتصف ستينيات القرن الماضي قبلة السواح والمغامرين.

الشجن في الأغاني اليونانية، يبرز لوعة المحبين فنتأثر بها من دون أن نعرف في البداية معاني الكلمات. أذكر أنني زرت أثينا أول مرة رفقة صديقي عمر بن حميد، فلقد كان لنا رفاق من الذين أوفدوا للدراسة في أكاديميتي الطيران والبحرية، كان إبراهيم، ومحمود، وفائز قد مهدوا لنا معرفة خبايا الأماكن التي نريدها، وكنا نراهم مساء يوم السبت، ويبقون معنا الأحد ويعودون إلى معسكراتهم، ويتركون لنا شققهم! عرفنا كيف نؤجر سيارة بمبلغ زهيد، وعرفنا أين ومع من نقضي أماسينا البهيجة.

الطائرة الليبية، كانت آنذاك كرافيل، وكان ثمن التذكرة 27 جنيهًا، ولا تستغرق الرحلة أكثر من 40 دقيقة، حينها كان مطار أثينا مجرد (براكه) من صفيح. في مطار بنينا التقينا بالشاب، آنذاك، لاعب كرة القدم المتميز إبراهيم البقرماوي، وأيضًا فتحي مخلوف شقيق عوض مخلوف لاعب كرة القدم المتميز أيضًا. وكان إبراهيم يجيد الغناء، وموهبة الإحساس بالموسيقي، وكان يكرر أن أنغام البزوكي، تثير أشجانه وكثيرًا ما تأخذه وصلة غناء: قال ذات مرة «أنغام موسيقاهم ترغمك على أن تغني موالًا ليبيًا شئت أم أبيت! والسؤال من تأثر بمن؟ الأنغام والحزن واللوعة وكأنها ليبية..» وهو إحساس صادق. لقد تكررت رحلاتي رفقتهم، ورفقة رافع، وعلي وعدد من شباب ذلك الزمن الجميل، إلى أن أخذت بها بسبب إقامة صديق بها، وما زلت أحن لتلك الأيام.

منذ يومين اتصل بي صديق من هناك، واقترحت عليه أن يذهب إلى ميناء غير بعيد من مدينة أثينا، بمدينة صغيرة اسمها (خالكيدا) وبامتداد رصيف صياديها، تتلألأ أنوار مقاهيها وباراتها ومطاعمها، وما عليه إلا أن ينتقل من منضدة إلى أخرى، فالمناضيد متراصة، وكل مجموعة تخص (مطيعم) محدد، ولكل منه تخصص في طبق معين، وباختصار شديد، ينبلج الفجر، من دون أن تنتهي من المرور على الحوانيت كافة، خلال فسحتك في ليلة واحدة، فهذا يقدم لك مع مشروب اليونانيين المفضل (أوزو)! مع طبق تخصصه، وهو الاخطبوط المشوي على الفحم، والثاني يقدم لك حبار بحر متبلا بحبره، ومقليا أو مشويا، وثالث يقلي لك (الكاتشامورا) وهي صغار أسماك التريليا اللذيذة، والرابع يقدم لك أقراص عجة يرقات الأسماك، أو الناموسة مثلما نسميها محليًا، وهي التي كانت في طفولتي من أشهر وألذ ما يقدمه لك مطعم بومدين الكائن أمام سينما النهضة ببنغازي، أسفل مكتب جريدة البشائر الشهيرة، آنذاك، وكانت معظم الشوارع الملاصقة لشارع (فياتورينو) وهو ما تسمى بعد الاستقلال بشارع عمر بن الخطاب، تسمى شوارع النصارى، ومعظم سكانها من اليونانيين، وهكذا انتقلت عجة أسماك الناموسة إلى السكان الليبيين القريبين من شوارع النصارى!.

أثينا، كالقاهرة، ساحرة إن أحببتها أحبتك وإن كرهتها كرهتك، وسريعًا ما يصبح الغريب صديقهما، ولعل ذلك بسبب عمق حضارتهما. سريعًا ما تتعلم التحدث باللغة اليونانية، وسريعًا ما يشرحون لك معاني أغانيهم وقصصها. كلمة (معكوس) في لهجتنا، الليبية، تعني مدمن الخمر، أو المتشرد، أو ذا الحظ السيئ. أعرف فتاة يونانية أحبت شابًا من بنغازي وأحبها هو الآخر ثم تزوجها وهاجرا إلى كندا. عندما التقيته كانت أغنية يونانية اشتهرت في ذلك الوقت، تقول كلماتها: (ساغبو ماكوس) وتعني أحبك كثيرًا يا حبيبي. وجاءت الفتاة إليه، ذات يوم وتغنت له بالأغنية، فاشتاط غضبًا، وقال: آخرتها، (تقول عني «معكوس») ولكن سريعا ما تدخل أولاد الحلال وفسروا له معنى الأغنية. كثيرون من شباب بنغازي عشقوا اليونان، أُخذوا بها. أصبحت قبلة لكثيرين، أعرف شخصًا قيل عنه: «أن الشهور العربية لديه: رجب وشعبان واليونان!».

جيلي عرف الأديب الروائي المفكر(نيكوس كازانتزاكس) في منتصف ستينيات القرن الماضي، من بعد وفاته بحوالي سبع أو ثماني سنوات وبالتحديد من بعد نجاح فيلم زوربا اليوناني، الذي قام ببطولته أنتوني كوين، ومن بعد أفلام أخرى تناقش وتحلل مسألة الدين. لقد استمر حتى نهاية حياته وهو يبحث ليجد الخلاص الكامل نحو قناعته الدينية. واستمر في مناقشة دينه واصطدم بكنيسته، التي رفضت دفنه في مدافنها، ودُفن بالفعل خارج أسوار مدينة كريت، وكان قد طلب أن يكتب على قبره «لا أطمع في شيء. لا أخاف من شيء. أنا حر». مثل هذه القناعة انتشرت في ستينيات القرن الماضي. كانت الحرية لدى الكثيرين من جيل الستينيات، هي التحرر من كل ما يكبل التفكير، ولذا كان النقاش في المعتقد الديني، سلبًا أو إيجابًا، أحد أبرز ما سيطر على تفكيرهم، في ذلك الوقت الذي بدأت فيه مظاهر الرخاء المادي، تتضح بوتيرة متسارعة. وظلت أفراحهم وأحزانهم متذبذبة مثلما قالها كازانتزاكس على لسان زوربا، الذي جسده باقتدار أنتوني كوين! كثيرون، من رفاقي، رقصوا على إيقاع موسيقى زوربا، التي كان الراقص يضبط حركة أقدامه مع إيقاع آلة (البزوكي) اليونانية، ثم يطير في الهواء ليضرب قدمه بكفيه ويعود ثانية يتحرك على ايقاعات هذه الموسيقي.

هل أقول لكم أنني أنقر أحرف جهازي، ولا أسمع سوى إيقاعات موسيقى زوربا؟ وهل عندما أقول لكم أنني وبعض الرفاق رقصناها في ملاهي (بلاكا) في أثينا، وفي جزيرة رودس، وكأننا يونانيون؟ وكيف أقنعكم وأفسر النقاشات التي لم تتوقف مع شباب وشابات من السويد والدنمارك والنرويج، بلغة إنجليزية ركيكة، تغلب عليها اللغة اليونانية، التي تعلمتها حتى أنني خطبت فتاة يونانية وظلت تعلمني لغتها في الأماكن التي لا يمكن أن ينسى الشاب فيها دروسه.

لقد تزامنت أفراحي، وأشواقي واندفاعي عندما كان عمري قبيل وبعيد العشرينيات، خلال ثورة شبابية عمت العالم، فما إن يتوفر لي ثمن التذكرة، والقليل من المال حتى أنطلق في رحلة النصف ساعة إلى أثينا، وهناك لا أحتاج إلاّ إلى رفقة طيبة! قد تستمر أسبوعًا أو اثنين على الأكثر وأعود إلى بنغازي مثابرًا ومخططًا للرحلة القادمة. ومثلما قلت من قبل أني عدت بضلعة، أو اثنتين مكسورتين نهاية سنة 1967 كسرهما بحار أميركي من المارينز، نتيجة نقاش عن (نكسة) سنة 1967. وتزامنت عودتي مع بدء سنتي الأولى بالجامعة الليبية. وهل أستمر في سرد ما حدث، من دون أن أشير إلى انفتاح رهيب في المجالات كافة صاحبت ضخ البترول وكثرة المال، في أيدي من كانوا محرومين منه بالفعل بسبب قلته في الخمسينيات، وأيضًا بسبب توزيعه على مشروعات خلقت حالة من مناشط اقتصادية، لم يحرم منها أحد إلاّ قلة لا يعرفون: «ماذا يريدون بالضبط؟» كان السوق متاحا للجميع، وعاصرت أسماء تعد من أثرياء ليبيا، ابتدأوا من الصفر وبإمكانات بسيطة، هم الآن من رجال المال، من قبل أن تفتح الأبواب على مصراعيها لمشاريع الأشغال العسكرية، وكذلك التطوير العمراني الذي جعل أبواب المصارف مُشرّعة أمام كل من يريد أن يعمل ويكسب، وأيضًا أمام الكثير من المغامرين نجح منهم من نجح، وضاع منهم من ضاع، استمر هذا الحال من سبتمبر 1969 حتى خطاب زوارة يوم 15 إبريل 1973، ليقفل الباب تمامًا، سوى لقلة، من بعد يوم 7 إبريل 1976. والتداعيات مستمرة.