Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (1908-1969) (11)

سالم الكبتي الأربعاء 24 نوفمبر 2021, 10:12 صباحا
سالم الكبتي

.. خلال تلك الأيام من عام 1951 التي شهدت إعداد الدستور وصياغته قانونيا في صورته النهائية ظل يعرض أيضا على الملك إدريس. كان بعض أعضاء لجنة الدستور يأتون إلى بنغازي لمقابلته والحوار معه في الكثير من نصوصه ومواده. وبالطبع لم تكن للملك الدراية القانونية فهو ليس متخصصا في القانون ولكنه ضليع بخبرته السياسية وحنكته المعروفة في متابعة العديد من أمور السياسة والحكم في المنطقة العربية على وجه التحديد فقد عاش مهاجرا لفترة من الزمن في مصر ووقف على أجواء البرلمانات والانتخابات والدساتير وله معارف كثيرون فيها وفي غيرها من الدول وكذا من خلال علاقاته القديمة والمعاصرة في أوروبا ونظمها ولهذا كانت نقاشاته وحواراته على الدوام مع مندوب الأمم المتحدة المستر إدريان بلت والمجلس الاستشاري وأعضاء الجمعية الوطنية ولجنة الدستور تلقي بأضوائها على الكثير من جوانبها وتفيدها بكل دراية ودبلوماسية. لقد كان يعرف الواقع المحلي والعربي والدولي ولهذا فإنه كثيرا على سبيل المثال ما وقع تحت تأثير الحروب الإعلامية الهوجاء التي نسيت بأنه بشر له وعليه ولعل أخف هذه الاتهامات التي طالته أنه حسب لديها (عميلا إنجليزيا)!وهو لم يكن كذلك لهم ولا لغيرهم وذلك من سوء الفهم والالتباس الذي قاد الكثيرين للوقوع في فخاخ التسرع والحكم الطائش.

أنا هنا لست بصدد تقييمه أو الدفاع عنه بأي شكل من الأشكال ولكنني أرى أن الرجل وغيره من جيله الذين قادوا المرحلة في المنطقة رأوا أن بريطانيا (دولة عظمى) ومن المفيد سياسيا التحالف معها والتعاون بما يفيد الدولة لغير. فلم تستعمل هذه العلاقة ضد أي فرد من الشعب أو ضد دولة من الدول مجاورة أو بعيدة.

كان (الأمر الواقع) و (السياسة المتوازنة) التي رآها الآخرون عمالة وخيانة هي السائدة لمداولة الشؤون والأمور. وللمتابع أن يتقصى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالمفاوضات السلمية التي قادها الأمير ثم الملك ليعرف دهاءه وتصرفه السياسي بعيدا عن الحكم المسبق ووضعه في إطاره الزمني والتاريخي ومراعاة أسباب الثغرات والأخطاء.

كان السيد إدريس السنوسي ومجايلوه في ليبيا أو خارجها يدركون العالم الذي يعيشونه ويعرفون التعامل معه وفقا لما أتيح له ولهم من دراية وتجربة ومعرفة بالأمور فوق الأرض. لم يكن مفهوم العمالة أو الخيانة في أذهانهم على الإطلاق فيما أتصور وفيما سيحكم به التاريخ.

وعلى أية حال كان الملك يتابع أعمال لجنة الدستور وقد أشار الكثيرون ممن كانوا يلازمونه العمل والقرب بأنه كان زاهدا ومترددا في قبول الحكم واعتلاء العرش إذا كان وجوده يسبب صراعا أو انقساما في ليبيا. وأذكر أن السيد فتحي العابدية الذي كان سكرتيرا خاصا للملك في تلك الأيام وحضر جانبا من لقاءاته مع لجنة الدستور في قصر الغدير قرب بنغازي (بوعطني) الذي منحه للجيش لاحقا ليكون مقرا لأول كلية عسكرية ليبية عام 1957.

أذكر أن السيد العابدية روى لي الكثير من هذه التفاصيل بكل صدق وحياد فقد أشار غير مرة إلى أن الملك أكد في كثير من الأحيان على أن يكون نظام الحكم في ليبيا جمهوريا وقد حدث أن قدم له السادة: الشيخ أبو الأسعاد العالم وعمر شنيب وخليل القلال وسليمان الجربي المسودة النهائية للدستور بعد الفراغ من صياغتها للاطلاع عليها وتقديم أية اقتراحات بشأنها أو تعديلات تيضيف المزيد مما لم يصل إليه أعضاء لجنة الدستور.. فماذا حدث بالضبط؟ كان السيد العابدية شاهدا وصادقا في روايته فقد قام الملك شخصيا بشطب نصوص المواد الأولى التي تتصدر الدستور بالقلم الأحمر لأنها قضت بأن يكون نظام الدولة ملكيا وراثيا واقترح أن يتولى شؤون البلاد وإدارتها فترة من الزمن شخص محايد من خارجها نتيجة للكثير من التصورات والآراء المتعلقة بشخص الملك إدريس في الداخل وهذا الشخص هو الأمير محمد علي من الأسرة المالكة المصرية وكان من أفرادها المشهود لهم بالاستقامة والخلق الحسن والورع وكان أيامها وليا للعهد في مصر قبل حركة الجيش عام 1952 ولكن الأمر تغير بعد أن رزق الملك فاروق بولي للعهد وهو ابنه أحمد فؤاد في يناير من ذلك العام الذي وقع فيه حريق القاهرة المشهود.

كما أشار السيد العابدية، في أحاديثه عن هذه الفترة مباشرة معي في بيته في بنغازي خلال سنوات 1986و1987 و1988، إضافة إلى أحاديث أخرى عن الدولة الليبية وسياستها في فترة الاستقلال، إلى أن الملك نفسه أكد في مرات لاحقة سعيا للتغيير الهاديء والسلس على أن يكون نظام الحكم (جمهوريا) في لقاءات مع رئيس الحكومة السيد مصطفى بن حليم والمستر إدريان بلت واقترح بنفسه أيضا أنه في حالة وفاته وشغور المكان بتلك الوفاة يتم اختيار مجلس للسيادة يدير البلاد لمدة سنتين وهذا المجلس يضم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة فقط تحفظ أسماؤهم بطريقة سرية في مظروف مختوم بالشمع الأحمر يوضع في خزانة الديوان الملكي وتودع نسخ منه في خزانة الديوان الملكي وخزانة البرلمان وخزانة الحكومة وعندما توفي أخوه الأمير محمد الرضا عام 1955 وكان وليا للعهد لم يعين من يخلفه مباشرة إلا بعد عام من الوفاة في 1965 حيث استدعى ابنه الحسن الرضا وصدر أمر ملكي بتعيينه وليا للعهد وكان قد قدم استقالته أيضا تلك الأيام. أشار إلى أن التغيير قادم مع التطور والسنوات وهو يود أن يرعى التغيير بنفسه دون اللجوء إلى محاولات أو إجراءات يخشى وقوعها وتأثيرها على ليبيا إجمالا.

وفي إحدى جلسات الجمعية الوطنية في بنغازي اعترض الملك أمام أعضائها على كثير من السلطات التي منحت له وفقا للدستور فقد أصر على أن تضاف عبارة البرلمان في المادة التي أعطت له الحق في إعلان الحرب وأشار إلى أنها لاتتم من قبله فقط بل بمشاركة البرلمان وكذا الشيء نفسه في إعلان حالة الطوارئ في البلاد والكثير من الأمور. كما يذكر الكثيرون أن الملك عقب إعلان الاستقلال بأيام جمع أفراد أسرته كبارا وصغارا وأشار لهم بأن هذه البلاد ينبغي أن يتولاها أهلها ونحن نبعد إلى حيث المجالات التي تسمح بمواصلة نشاط الدعوة السنوسية فقط وشدد عليهم بالابتعاد عن الأمور السياسية ومغادرة البلاد أيضا إذا لزم الأمر قائلا لهم (بوحافر يحفر وبوجناح يطير).

أعلن الملك الاستقلال صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 من قصر المنار وسط جموع الشعب وخرائب البنايات المتهدمة من الحرب وعبر الحالة الاقتصادية البائسة وحضور أعضاء الجمعية الوطنية ومندوب الأمم المتحدة والمجلس الاستشاري والحكومة الوطنية وظل الماضي البعيد والقريب مجرد حكايات طويت ولم يعد بالإمكان إعادتها فقد مضى ذلك الماضي وبدأت مرحلة الاستقلال بالتوافق والنظرة البعيدة نحو البناء والتشييد واستخدام العقل والحكمة والصبر.

ووفقا لقانون الانتخابات الذي أصدرته الجمعية الوطنية تم إجراء أول انتخابات بعد الاستقلال. جرت في التاسع عشر من فبراير 1952 وأعلنت النتائج في العشرين منه بحضور مراقبين من الأمم المتحدة إضافة إلى العديد من المراقبيين المحليين في مختلف المناطق. واقتضى التوافق بأن يتم ترشيح خمسة وثلاثين نائبا عن طرابلس وخمسة عشرة عن برقة وخمسة عن فزان بحكم التركيب السكاني لكل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة.
.. فكيف تمت هذه الانتخابات الأولى التي أفلحت في إنجاز الطريق لأول برلمان ليبي بعد الاستقلال؟ وماذا حدث بالتفصيل وكيف كان نظامها و نتائجها؟ وماذا ترتب عنها؟.