Atwasat

خطابات التقدم قناعاً للعنصرية

سالم العوكلي الثلاثاء 23 نوفمبر 2021, 10:07 صباحا
سالم العوكلي

ذات عشية، ذهبتُ مع الصَديقين، أحمد يوسف عقيلة ومفتاح خليفة عبد القادر، في رحلة مع سفح الجبل الأخضر الجنوبي (جنوب بلدة قندولة) وتراءى لنا في أعلى تلة كوخ صفيحي قديم وقطيع من الأغنام، واقترحا صديقاي أن يمرا على رفيق لهما لإلقاء التحية، وحين وصلنا كان في سفح التلة وسط الأجمة راعٍ يراقب القطيع ويلوح بعصاه. كنا مستعجلين للعودة لكنه أصر على دخولنا غرفة الصفيح ليحضر لنا حليب ماعز طازجاً، وبعد دقائق نادى أحمد ليُشعل النار، وخرج أحمد ليجد خروفا مسلوخا ومعلقا في شجرة العرعر القريبة، ولم تكن ثمة فرصة للنقاش أو الحديث عن الرغبة في عودتنا السريعة، وأثناء العشاء دار حوار أدبي بيني وبين أحمد وحين ذكرت بيتا شعريا قديما صحح لي المستضيف الذي كنت أعتقد من خلال هندامه أنه راعي غنم فقط خطأً نحويا دقيقا جدا، لأعرف أنه أستاذ جامعي تحصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية بامتياز من جامعة عين شمس، د. إبراهيم سعد مجيد، وكانت الجلسة معه التي تحولتُ فيها إلى تلميذٍ ممتعةً، فقد كان أكاديميا ومثقفا وشاعرا شعبيا كبيرا، وراوية حاضر البديهة، يمزج في مركب سحري بين قيم البداوة وقيم المدينة.

بالنسبة للبعض مازال رعاةُ الأغنام هم أنفسهم رعاةُ أغنام كما رسخ المفهوم في أذهانهم، مع احترامي لهذه المهنة في كل مراحلها التي تسهم بقوة في الاقتصاد الليبي وفي التنمية كما في دول أخرى نسميها كبرى ومتحضرة تحترم كل شرائحها لأنها تراها ضرورة لحضارتها. وبدل أن تزدريهم المدينة أو تعتبرها مسبة لأصحابها، صدرت لهم التقنيات الحديثة والخدمات وكل وسائل الراحة وجعلتهم رافدا للاقتصاد الوطني.

حكاية الراعي الأكاديمي لا تعتبر استثناء في مثل هذا المجتمع الذي تغير محتواه إلى حد كبير، فمعظم مؤلفي غناوي العلم ومنشديها حاصلون على درجات الليسانس أو البكالورويس، أو حاصلون على رسائل ماجستير أو دكتوراه في الأدب أو اللغة أو علم الاجتماع وغيرها، ومستعدون ليخوضوا معك حديثا عميقا عن الموسيقى أو القصيدة النثرية أو عن المتنبي ونزار قباني.

كثيرا ما كان يصحبني الصديق أحمد يوسف عقيلة في رحلات أو سهرات مع أصدقائه هناك من مؤلفي الشعر الشعبي أو رواته أو متذوقيه، وفي جلساتهم كنت أحس كأني في ورشة عمل حقيقية، وحول كل الشؤون؛ بما فيها الأمور السياسية الراهنة وتحليلها بمنطق وعقل ذكي، وكثيرا ما استفدت من تلك الجلسات في كتابة مقالاتي.

يحيلني هذا إلى ظاهرة تنميط المفاهيم أو التصورات التي يخاطب بها البعضُ الشرائحَ الاجتماعية التي لا تشبهه، وما دامت لا تشبهه فهي بدعة وناشزة، وفي أفضل الأحوال معرقلة لمشروع الدولة، وتتقنع خطابات العنصرية بأقمشة التقدمية المزركشة.

وفي سياق الحديث الذي عادة ما يستهويني عن المفارقات الليبية، من المفارق أن من يصبون غضبهم على القبيلة أو البادية أو على الصحراء والجنوب، كانوا في الوقت نفسه يقدمون رؤيتهم أو حلمهم لمستقبل مدنهم أن تكون على طراز (دبي)، وصُدح بهذا النموذج هدفاً حتى في بعض الدعايات الانتخابية، ومدينة دبي أنجزها بدْوٌ قبليون في قطعة صحراء، ومازالوا يحتفظون بقطعان إبلهم وملابسهم وصقورهم وألقابهم القبلية التي يتفاخرون بها. بالنسبة لي وللكثيرين لم تكن دبي المدينة النموذج، لأن المدينة في نظري تعكس طبيعة علاقات حضارية وليست مجرد أضواء ومبانٍ فارهة، ولكن أذكرها في سياق المفارقات الليبية الصنع التي تظهر وتشي بضباب أو غموض في الرؤية حين تخضع لأحكام مسبقة، ووقتها كتبت أن النموذج هي المدن والأرياف والواحات الليبية حقبة الستينيات على الأقل، قبل أن تخسف بها الأيديولوجيا التي يقودها عسكريون، وقبل أن يغزوها النفط حين أصبح المصدر الوحيد للدخل بعد أن أُمِّم القطاع الخاص الذي هو جوهر نشاط المدينة الحديثة ومنبع الطبقة الوسطى الحري بها قيادة المجتمع.

أُتيحَ لي أن أعيش الحيوات المختلفة، البادية والقرية والمدينة، وأستطيع أن أقول أني وقفتُ على أن كل هذه الثقافات متكاملة وليست متضادة كما يروج لها الآن، وأن ما ينقص هو إدارة هذه العلاقة التكاملية بينها، وأن لا تُختزل في تأويلها السياسي أو في ظرفها التاريخي الخاص الذي خلق هذه الهوة بناء على إدارة سيئة لهذه العلاقة خَدَمَتْها ظروفُ الاقتصاد الريعي وطبيعة الحكم الشمولي الذي طالما هجته قصائد وأغان شعبية بدوية في زمن الصمت والطاعة، وتمخض عن هذه الهوة نوع من العنصرية التي أحالت كل ثقافة إلى قدر جيني تحول فيها مكان مولد الشخص ولقبه إلى معطى ثابت للحكم عليه واتخاذ موقف منه، وقد عايشت هذا الخلل الذي اعترى المفاهيم وحوَّلها إلى شعارت صادحة أو شعائر لا يمكن دحضها بأي محاولة لتجاوز هذا الترسيم. فأنت لم تُولد هنا إذا أنت غاز ومتخلف ومعرقِل، بل ووصل الأمر إلى اتهامي صراحة بأني جزء من المؤامرة البدوية على ثقافة المدينة ومن قبل بعض المحسوبين على الثقافة، وهو اتهام كُتب في تعليقات على بعض مناشيري وليس مجرد تخمين أو حدس، وفي المقابل ثمة ردة فعل عنصرية تتفشى في محيط المدينة ضدها وكأنها استمرار لخطاب النظام السابق المقذع ضد قيم المدينة وسكانها. وما هي العنصرية غير أن تضع عرقا أو دينا أو فئة من الناس أو لوناً أو طريقة حياة تحت حكم شامل بالدونية.

قبل اكتشاف النفط وتصديره، وقبل أن تدير المدن ظهرها للمحيط عندما أصبح كل الغذاء يأتي من البحر، كانت العلاقة تبادلية وسوية حين كانت مقايضة السلع بين المدن ومحيطها أمرا ضروريا لاستمرار الحياة للاثنين، كما عايشت رغبة المدينة في تصدير قيمها الثقافية إبان الستينيات حين كانت المكتبات والسينما المتنقلة تصلنا في القرى والنجوع، وحين انتشرت المدارس والأقسام الداخلية والآلات والخدمات الصحية في الدواخل، لكن ما حدث بعد ذلك من تكديس الثروة النفطية وتحويلها إلى مرتبات في المدن، تسبب في نزوح جماعي صوب المدن أضر بالاثنين، ثم بدأ النظام الجماهيري حربه على المدينة في سياق حربه على مفاهيم النخبة والكفاءة، وانتهى بقذع وشتائم للمدينة وسكانها في إحدى القصص التي كتبها الحاكم في إطار استراتيجية بدونة الدولة التي كانت شعار النظام السابق الصادح ما جعل البعض يختزل البداوة في هذا السياق الضيق حتى يومنا هذا، مع أن هذا المفهوم تبدل بالكامل بعد تسويق النفط وما تلاه من انسياب للمعرفة عبر الأقمار الصناعية والمجتمع الرقمي الذي أصبحنا شئنا أم أبينا جزءا منه حين تحولت هذه الثورة التقنية إلى نظام شامل للترويج والتسويق: تسويق كل شيء، من السلع إلى الثقافة إلى الدين إلى النموذج.

يلتفت الكاتب والمؤرج الاجتماعي د. محمد المفتي إلى هذه المتغيرات الجذرية في كتابه المهم (مواهيم الجبل: التاريخ الاجتماعي للجبل الأحضر) ومحمد المفتي حضري ومديني حتى النخاع، بل أوربي الهوى، لكن مجاله التشخيصي في اختصاصه الأصيل في الطب ينعكس على كتاباته التي تعتمد العينة والتحليل والانتباه للأعراض ومآلاتها الطبيعية، وحين عُين في بداية تخرجه طبيبا في مدينة البيضاء، قرر أن يكتشف المكان، ليس جباله وغابته وتضاريسه فحسب، لكن محتواه البشري والثقافي والجمالي.

يذكر في كتابه الشيق، في سياق حديثه عن المتغيرات الاجتماعية التي تصاحب ما حدث من تبدلات في طرق العيش وفي العلاقات ووسائل الاستقرار والمعرفة: "في بيئتنا الليبية الأولى نجد أنماط معاش متقدمة مشابهة. فالبئر أو بير الجبد (أو السانية بلغة الغرب الليبي) هو أساس المزرعة الليبية في كل قرانا الساحلية.. والواحات من أوجلة إلى الكفرة وواحات الجفرة وغات حيث توجد مياه جوفية قريبة نسبيا. ويحصل أصحابها محليا على ما يحتاجون من حبال وبكرات خشبية وقرب جلدية، بينما يمر عليهم عمال مهرة أو "اسطوات" لإصلاحها. هذه البئر والمزرعة تقود إلى الاستقرار والملكية.. حينها يصبح الارتباط بالمكان أهم من الارتباط بالجماعة أو القبيلة.. ويتراجع دور شيخ القبيلة". هذه تقنيات بدائية غيرت في النظام الاجتماعي، ما بالك حين نتحدث عن هذا العصر: التقنيات الحديثة من وسائل مواصلات واتصال، وحفر آبار جوفية من أعماق بعيدة، وفضائيات، وشبكة إنترنت أصبحت جزءا من هذا الحيز، دون أن نتفحص أو ننتبه لفعلها في بنية هذا العقل الذي مازلنا نحكم عليه وفق توصيف بالٍ وجامد، بل ونقلت حتى وعي المدن إلى أفق آخر. يضيف المفتي: "قبائل الصحراء تمارس الحياة الرعوية المحضة.. حياة ترحال من مناطق معشبة إلى أخرى، ومن وادٍ إلى آخر.. وهنا تكرست القبيلة كنظام اجتماعي أو على الأصح نظام دفاعي للذود عن الأرض والآبار. وهي آخذة في الضمور والاختفاء لدينا، بالنظر لدحول السيارة لنقل الماشية، وتوظيف الرعاة الأفارقة، وتوفير العلفة المدعومة، واستقرار الناس في بيوت وتعليم الأجيال الشابة والتحاقهم بالوظائف". وهذه مظاهر أستطيع أن أجزم أنها بدأت منذ 50 سنة، لكن ما يؤكد المفتى أنه اختفى من الواقع لم يختف من مخيال من يسعون لتكريس هذه الدونية وكأنها قدر جيني، وأكرر للأهمية: وما العنصرية سوى الاحتفاظ بصورة دونية في المخيال لعِرْق أو فئة أو مذهب أو لون أو تراث أو طريق حياة.