Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (1908-1969) (10)

سالم الكبتي الأربعاء 17 نوفمبر 2021, 11:49 صباحا
سالم الكبتي

(..وإنه لمن أعز أمانينا كما تعرفون أن تحيا البلاد حياة دستورية صحيحة)
الملك إدريس السنوسي في خطاب إعلان الأستقلال

.. ولابد أحيانا من العودة إلى التاريخ أو بمعنى آخر التقدم خطوة نحوه. فقد ظلت ليبيا وستبقى ذات موقع مهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط وتحميها من الخلف عبر البعيد الصحراء الكبرى ومنذ القدم تشكلت هويتها وشخصيتها بالتدريج نتيجة لتلاقي الحضارات فوق أديمها الواسع وامتزاج الثقافات والمعارف والفنون والعادات وتأسيس المدن والمراكز الحضارية واستيعاب القادمين للعيش بها في حرية وسلام.

في (قوريني)على قمة الجبل الأخضر نشأ الفلاسفة وبرزت مدرسة المشائين ووضع المشرع الأغريقي الشهير (ديموناكس) دستورا للمدينة في سنوات ما الميلاد وظلت قوريني على الدوام في تلك الحقبة مقرا للحكمة والفلسفة والرياضة والطب والعلوم ومنها انطلق كاليموخس لإنشاء مكتبة الأسكندرية إحدى مدن العالم القديم الكبرى مع قوريني وقرطاجنه ولبدة. وعند الفتح الإسلامي دارت حول طلميثة التي كانت عاصمة لإقليم برقة أولى معارك الإسلام في ليبيا وعقب تلك المعارك الفاصلة كتب المسلمون الفاتحون مع سكانها النسخة الأولى من وثيقة الصلح التي أصبحت نموذجا راقيا لجميع الوثائق اللاحقة مع بقية المدن المنتشرة التي سيقومون بفتحها في شمال إفريقيا. كانت هذه الوثيقة كما تقول المصادر التاريخية وثيقة تحرير بالفعل من العصر المظلم الذي عاشته شعوب المنطقة تحت حكم الرومان. ثمة خلفية تاريخية تطل دائما عبر ليبيا تنهض أمام الأعين مرة في لحظات اليأس وتغيب أكثر بكل مرارة في أوقات مؤلمة من الانكسار والحزن. فلتكن مشيئة الله كما أرادها.

وفي كل الظروف لعل الليبيين غدوا يستفيدون من هذا التاريخ والإفادة من تجربتهم المتواصلة إضافة إلى تجارب الآخرين على الطريق وبهذا تكتمل أسس تكوين الدول فمن لاقديم له لاحاضر لديه بأختصار شديد. إن ذلك يعتبر قفزة في الفراغ وفي الهواء فوق كنوز مطمورة تحت الأرض.
يذكر د.مجيد خدوري العالم المشهور وثاني عميد لكلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية عام - 1957 -1956 في مذكراته في ليبيا أن في تحضير الدستور الليبي عام 1951 حدثه الدكتور عوني الدجاني الذي كان مستشارا قانونيا للجمعية الوطنية التأسيسية خلال أعمالها في لقاء جمعهما يوم الخميس الموافق للرابع والعشرين من يناير 1957 قائلا: (نظرا لقرب الفترة الزمنية التي حددتها الأمم المتحدة موعدا لاستقلال ليبيا فقد أعد الدستور بشيء من السرعة عبر اجتماعات اللجنة الدستورية التابعة للجمعية الوطنية وانتهى الفراغ منه خلال ستة أشهر فقط. وهذه اللجنة عينت تسعة أعضاء من أجل وضع لائحة الدستور وكانت بواقع ثلاثة أعضاء عن كل إقليم. كنت مستشارا قانونيا للملك إدريس فأرسلني لأعمل إعداد الدستور وكنت أمثل وجهة نظر الملك فيما يتعلق بالدستور. وقد وضعت لجنة التسعة أعضاء مسودة الدستور وترجمت كافة الدساتير الفيدرالية (نحو إثني عشر) في العالم حتى يطلع عليها أعضاء اللجان وجلبت أيضا دساتير البلاد العربية الأخرى للاطلاع عليها. وأكد الدجاني على أنه حضر (بتشديد الضاد) نحو ثلثي الدستور: ثاني أبوبه الذي يتعلق بالمقدمة وحقوق الملك والشعب والوزارة والمحكمة العليا. أما عمر لطفي المستشار القانوني لأدريان بلت فقد حضر المواد المتعلقة بالبرلمان والنظام المالي وقد استقى أكثر المواد لهذه الأقسام - نحو أربعة أبواب - من الدستور المصري. فالنظام التشريعي كثير الشبه بالدستور المصري. وأشار الدجاني في هذا اللقاء أيضا إلى أنه علم آراء الملك العامة كرغبته في أن يكون شكل نظام الحكم فيدراليا ورأيه في هذا ساد بالرغم من كثرة مطالبة الأعضاء الطرابلسيين بالدولة الموحدة. وقد شرع أول قانون دستوري من قبل الجمعية الوطنية بقانون اقترحه السيد محمود المنتصر رئيس الحكومة المؤقتة نص على أن يكون نظام الحكم ملكيا وإعلان ملكية إدريس الأول أول ملك لمملكة ليبيا. وكذلك نظرت الجمعية في عدة اقتراحات وقوانين كانت لها صفة دستورية).

وعلى هذه المعطيات والتفاصيل القول يظل مؤكدا على أن خطوات الدستور ومناقشته تولتها اللجنة المختارة من الجمعية الوطنية فيما ظل أمر الصياغة القانونية في صورة الدستور النهائية تعود للمستشارين الدجاني ولطفي بعد الموافقة النهائية من الجمعية بالكامل.

لقد ناقشت الجمعية أيضا بكل مسؤولية وأمانة في جلسات استغرقت وقتا طويلا وعاصفا بعض الأحيان موضوع البرلمان وتكوينه وتفاصيل النظام الانتخابي وتفاصيل تقسيم السلطات التشريعية بين مجلسي البرلمان المقترحين وهما النواب والشيوخ واستعرضت عدة اقتراحات بشأنها وقر الاتفاق على أن ينص الدستور الليبي على قيام برلمان ليبي مؤلف من مجلسين: أحدهما مجلس للشيوخ يؤلف من ممثلين للأقاليم على أساس المساواة وعلى أن يكون هؤلاء الممثلون معينين أو مختارين من قبل حكومات الأقاليم ثم يعينهم الملك وفي هذا تفضيل للجمعية في أن تؤكد على ذلك أو ترغب في أن يقوم الملك من تلقاء نفسه بتعيين عدد محدود من هؤلاء الممثلين ويتم اختيار الآخرين من قبل حكومات الأقاليم ثم يعينهم الملك ويتم انتخاب أعضاء مجلس النواب على أساس نسبي يضمن تمثيل سكان الأقاليم الثلاثة. وواصلت نقاشها في كل القضايا التي تهم المستقبل ومن بينها مسألة تنقيح الدستور وإجازة ذلك بعد موافقة المجالس التشريعية في الأقاليم والبرلمان ثم الملك وهذا ماحدث لاحقا عند إجراء التعديلات الدستورية عام 1963 .

بعد الموافقة من قبل لجنة العمل على مشروع الدستور إكتمل بمقدمة واثنى عشر فصلا ومائتين وثلاث عشرة مادة. وأرسل إلى الجمعية الوطنية في العاشر من سبتمبر 1951 وقريء فيها للمرة الأولى وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه عقدت الجمعية جلساتها في بنغازي لمناقشة مشروع الدستور وإقراره ثم وافقت عليه دون أية تحفظات أو اعتراضات في السابع من إكتوبر 1951. ثم قدمت الحكومة الاتحادية المؤقتة للجمعية في الثاني والعشرين من إكتوبر مشروع قانون الانتخاب وبعد أن درسته وأجرت بعض التعديلات أقرته وأصدرته في السادس من نوفمبر 1951.

ستجرى هذه الانتخابات لاحقا في النصف الثاني من فبراير 1952 وكان بود الجمعية الوطنية أن تجرى تلك الانتخابات قبل إعلان الاستقلال ولكن وضع قانون الانتخاب لم يكن ممكنا بطبيعة الحال كما تشير تقارير الأمم المتحدة إلا بعد أن انتهي من وضع الدستور الذي حدد الهيئات الواجب اتخاذها والمباديء الأساسية الواجب اتباعها في النظام الانتخابي. فيما لخص المستر إدريان بلت رأيه في هذا الدستور في إحدى تقاريره بأنه: (يمكن القول بأن الدستور الليبي ذو طابع ديمقراطي والملك هو ملك دستوري يتولى سلطاته عن طريق وزرائه المسؤولين أمام مجلس النواب المنتخب أما فيما يتعلق بحقوق الإنسان فالدستور يتبع بوجه عام مباديء إعلان حقوق الإنسان الذي وضعته الأمم المتحدة ونظرا للظروف السائدة في ليبيا فإن الدستور ليس ديمقراطيا من حيث الفكرة بل يتيح فرصة للتقدم المطرد).

ومن أهم خصائص الدستور الليبي وقتها التي أشارت إليها تقارير الأمم المتحدة أيضا بأنه: دستور ديمقراطي لأنه يعترف بالسيادة للشعب فالسيادة للأمة والأمة مصدر السلطات. وهو دستور نيابي لأن مجلس الأمة بمجلسيه نوابا وشيوخا يقوم باستعمال حقوق الشعب الدستورية نيابة عنه وهو أخيرا دستور برلماني لأنه يقرر المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب.

.. فماذا كانت آراء الملك عندما كانت تعرض عليه مسودة الدستور تلك الأيام. كيف كان ينظر إلى الأمور التالية بعد الاستقلال؟!