Atwasat

الفلسفة للأنا والآخـر

نورالدين خليفة النمر الخميس 28 أكتوبر 2021, 10:55 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تدريس الفلسفة في الجامعة كفعالية، وإن كان تأثيرها نخبوياً ومحدوداً في المجتمع، أمرٌ لم يتسنَّ في الجامعات العربية إلا لقسمي الفلسفة بآداب جامعتي القاهرة وعين شمس المصريتين، حيث برزت اتجاهات فلسفية كان لها أساتذة مؤثرين وطلاب متأثرين. فالوجودية صارت إيمانية حدسية، وأقحمت الفلسفة في المشكلة الإنسانية، والمثالية ـ الذاتية عبرت عن نفسها مصرياً بـ "الجوانيّة"، وصير للفلسفة مضمون الواقعية الجديدة، والوضعية المنطقية تجاوزت تطرّفها بوصف الميتافيزيقا كخرافة إلى اعتبارها قاسماً في الفكر العربي وقد فُصل فيه بين المعقول واللامعقول، أما الظاهراتية كمنهج وفلسفة فتم ربطها بعلوم التأويل "الهيرمنوطيقا".

من الجيل الذي تخرّج من قسم الفلسفة بعد التحول الثوري في مصر عام 1952 عدا يحي هويدي الذي حاول أن ينظر لتوجهات النظام في كتاباته وأبرزها كتاب "الفلسفة في الميثاق" و "حياد فلسفي" لم يُتح لأساتذة الفلسفة المصريين التعبير عن مواقفهم السياسية، ووجهات نظرهم في الحقبة الناصرية. ولكن التراجعات السياسية والاقتصادية فيما سمي بالانفتاح والاعتراف بإسرائيل وصعود التيار الإسلامي دفع أساتذة فلسفة كـ فؤاد زكريا وحسن حنفي إلى الانخراط في الكتابة السياسية.

عكفت على قراءة كتابات حسن حنفي المبكرة في مجلتي الفكر المعاصر وتراث الإنسانية سنة انتدابي من الإعلام إلى المكتبة العامة بكلية علوم طرابلس 1983 ماشدني لغته المسترسلة وهو يُسهب في عرض ومناقشة فلسفات سبنيوزا وفولتير وكنط وهيجل وفشته ولسنج، وفيورباخ، وأونامونو وأورتيجا أي جاسيه وماركوزة. لكن امتيازه عن جيله تمثل في ربطه بين الظاهراتية التي عبرت بلغة هوسرل عن الأزمة الأوروبية، واللاهوت الثوري العالمثالثي وأعلامه في أمريكا اللاتينية كإميلو توريز وإرنستو كاردينال وثأتيره في أفريقيا وآسيا.

في تمهيدية آداب بنغازي 1974 درَّسنا كتابه "نظرية المعرفة" من قسم الفلسفة محمد فتحي الشنيطي المختص في ديفيد هيوم وكتب في البرجماطية وترجم عن الفرنسية كتاب الأخلاق العملية لكنط، ثم درسنا عامي 75 ـ 1976 المنطق الصوري ومناهج البحث الفلسفي، ولكن لم نتعلّق به أستاذاً قدوة لنا بسبب ظروف أحداث يناير الطلابية وتابعها الـ 7 من أبريل عام 1976. وتأخرت دفعتنا فلم نلحق على الأساتذة الأعلام كـ .عبد الهادي أبوريدة في الفلسفة الإسلامية (من الكندي إلى الغزالي) الذي تتلمذ عليه الليبيون محمد الشريف وعبد الكريم الوافي ومحمد ياسين عريبي وعلي فهمي خشيم، ولا عثمان أمين الذي اشتهر بمؤلفاته عن الفيلسوف ديكارت، والذي أهدى عام 1967 ترجمته لكتيب مارتن هيدجر في الفلسفة والشعر لتلاميذه الليبيين، ولا عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الذي كشف مخطوطات الفلسفة في المدرسة القورنائية في المدينة الأثرية بشحات ـ ليبيا والذي لترويجه الفلسفة الوجودية بين طلابه اعتقله انقلابيو سبتمبر العسكر في سجن الكويفية عام 1973.

التقيته عام 1991 في ليلة شتائية رمضانية إذ طلبنا نحن أساتذة الفلسفة بكلية التربية ليتعرف علينا ويحاورنا.. فما كان من مضيفيه بالمركز العالمي للكتاب الأخضر إلا أن خضعوا لرغبته فحضرنا ثلاثة، دون بقية الأساتذة الليبين الذين تعللوا بأسبات أبرزها أن اللقاء في مركز الكتاب الأخضر. وفتح معنا حواراً في ثلاثة محاور اهتم بها في كتاباته الفلسفية. في عام 1998 لمحته أستاذاً ضيفاً لسيمنار صيفي بجامعة مدينة بريمن. في احتفالية إشهار كلية الفلسفة بجامعة كارل أوزتسكي التي كنت وقتها أدرس فيها بمدينة أولندبورغ في يوم المحاضرة الشرفية التي ألقاها الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس بعنوان اللغة والتواصل الإنساني، فسلمت عليه وذكرته بلقائنا السالف في طرابلس. إلا أن ظروفي الصحية حالت دون زيارته في بريمن إلا قبل عودته إلى مصر بيوم، فمنحني من وقته ساعتين تبادلنا فيهما أطراف الحديث في قضايا فلسفية وفكرية شتى. وانتهزت الفرصة لأسأله عن سبب زيارته إلى طرابلس عام 1991 فأخبرني أن غرض الزيارة مسعى وساطة لعودة العلاقة الدبلوماسية المنقطعة بين ليبيا ومصر. اللقاء الثالث كان صدفة في مكتبة ابن سينا العربية بالحي اللاتيني بباريس وكنت في زيارة عائلية بمناسبة صوم رمضان، ودعاني فلبيت دعوته لحضور محاضرته بالفرنسية التي نسيت مبادئها في المعهد الثقافي المصري. المرّة الرابعة عندما اقترحته مشاركاً في المؤتمر عن الإسلام وراهنه السياسي في ربيع عام 2003 الذي التأم بجامعة أوسنابروك بمناسبة عرض نتائج المشروع المشترك بين جامعتي أوسنابروك وإسطنبول لتدريس مادة الإسلام في مدارس ولاية النيدرزاكسن في شمال ألمانيا. وقد تمتعنا برفقته يومي المؤتمر المذكور.

الغرض من تأبين المتوفى إظهار الخصائل الشخصية التي ميزته في حياته، وما ميز حسن حنفى:

1 ـ أنه اعتمد الفلسفة خياره الأساسي ومبادئها منطلقه ومعياره الذي يزن به كل التوجهات في الاعتقاد والمجتمع والسياسة. فيمكن اعتباره كزميله محمود أمين العالم آخر المثقفين الفلسفيين العضويين بتعبير المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي.

2 ـ رؤيته السقراطية بأن الفلسفة حوار مع الآخر، وتبادل الأفكار، وركوب الأسفار، لقد لبى دعوة جامعة أوسنابروك الألمانية وحضر للمشاركة في مؤتمرها المتواضع الملتئم على إعلان نتائج مشروع مدرسي، بعد عودته من المشاركة في مؤتمر مدينة غرناطة الأسبانية الفخم حول إسهام الأندلس الإسلامية في اكتشاف أمريكا.

3 ـ التنويه بتعليم الفلسفة، وأهمية دور معلمها، فرغم أن زيارته إلى طرابلس 1991 كانت ذات إطار سياسي لغرض الوساطة بين ليبيا ومصر، إلا أنه أصر، رغم ضيق وقت الزيارة وتوقيتها في شهر الصوم، على مضيّفيه من المسؤولين الليبيين على أن يلتقي بأساتذة الفلسفة في جامعة طرابلس ويحاورهم ويسمع رأيهم في كتاباته، رغم مجهوليتهم وتهميشهم من قبل النظام الدكتاتوري بل تغيير مهمة الفلسفة الفكرية إلى مهمة تفسيرية للكتاب الأخضر، والأنكى تبديل اسم الفلسفة المتعارف عليه في العالم بـ"علم التفسير".

4 ـ تواضعه الجمّ، وإنصاته وانتباهه لما يقوله الآخر الذي يحدثه، وعدم تحسيسه لمحاوره بتعالي شعور الأستاذية المصرية على العرب، وقد لوحظت هذه الخصال في المحاورة الفكرية التي جرت بينه وبين المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فقد كانت القضية الأولى في مساهمة حسن حنفي بعنوان "في معنى الحوار ومقاصده بعيداً عن منطق "الفرق الناجية" حيث يقول: "إن الحوار الفكري هو مقدمة للحوار السياسي، والحوار بين المفكرين إنما يمهد الطريق للحوار بين القادة والزعماء. فالفكر يسبق الفعل والتصور يأتي قبل الممارسة".

5 ـ لم تغره، كالكثير من أساتذة الجامعات، مزايا الإعارة لبلدان النفط، بالابتعاد عن مهمته الأساسية أستاذا للفلسفة في الجامعة المصرية ورئيس قسمها، ومؤسس الجمعية الفلسفية المصرية، والتأليف الغزير في مباحث الفلسفة وقضاياها، بل انفتاحها على مناحي فكرية ومجتمعية وسياسية وإنزالها من برج الآكاديمية العاجي إلى واقع الناس وهمومهم الحياتية اليومية.