Atwasat

اللاهوت السياسى المنقوص

رافد علي الأربعاء 27 أكتوبر 2021, 09:52 صباحا
رافد علي

كان لانتصار فكرة الدولة الدستورية بأوربا الأثر الواضح في الكشف عن أن اللاهوت والماورائية قد طردا فكرة المعجزة باعتبارها حالة استثناء، ورفضا أيضاً فكرة التدخل المباشر للحاكم السيادى في النظام القانونى بما يحفظ الربوبية، وهذا مكّن التيار الكاثوليكى المحافظ بأوربا، بعد الثورة الفرنسية، من الكتابة ضمن التيار المضاد للتغيير الثورى، بتلك الحقبة، لدعم السيادة الشخصية للملك آيديولوجياً عبر الإاستعانة بمفردات اللاهوت الإِيماني رغم رواج "عقلانية" التنوير.

القانوني الألماني الشهير هانس كيلسن من إبداعاته في مطلع القرن الماضي تشديده على العلاقة بين اللاهوت وعلم التشريع حينما تحدث، عام 1920 ،عن الدولة بالمفهوم السوسيولوجى والتشريعى، فمن وجهة نظر أن هناك فكرة ماورائية تحدد قانونية الطبيعة والقانونية الوضعية عند التعاطي مع جدلية التشريع للدولة-علي مختلف المستويات- كنظام مؤسسي ومجتمعي. فتاريخ الأفكار في أوربا يكشف عند هانس عن أن "مفاهيم النظرية الحديثة للدولة مفاهيم لاهوتية مُعلمَنة"1 ، ولعل أن ما يجمع أنصار القانون الطبيعى وأتباع التيار الديني المدرسي في هذه النقطة هو محاولتهما عدم الوقوع في اعتباطية التأسيس التشريعي، فالربوبية مُصانة، والتشريع في الدولة حالة سيادية أضحت بيد "الرعية"- ضمن سياسة التصالح مع المفاهيم الجديدة التي تسود القارة.

ونظراً لعدم حالة الانسجام المنهجي بين تيار الطبيعة وتيار الدين، وبالتالي عدم التطابق في النتائج عند الفريقين، ومرد ذلك إلى أن اللاهوت السياسى كان عازماً علي خلق نظام دنيوي للدولة، يكفل للبشر تحقيق إنسانيتهم عبر العمل ضمن تمازج ثنائية "الحق الطبيعي المكفول، والواجب القانوني المفروض"، إلا أن التيار المدرسي بلاهوته، ليس له من عبء حقيقي، أو إرادة لإقامة نظام لدولة، بل مُلك، يتوارى خلفه ليمارس لعبة الحكم والسلطة والثروة، فالهدف عنده يتمظهر في السعي للـ "خلاص الأبدى للبشر" بعد القيامة، عبر الدعوة لسلوك متدين أو ببيع صكوك الغفران، فالحُكم ليس للرعية، باعتبارها تابعا للرب ومَتاعا للمَلكية والإقطاع فيها، ولذا واجهت الكالفينية الإصلاحية الدينية؛ بدعوتها لتحرير الفرد ضمن تبنيها للرأسمالية، بضراوة "فقهية" شديدة من رجل الدين المحافظ.

علم الكلام، أو اللاهوت الإسلامي، اختلط حتماً بالخليفة، ومارس معه لعبة الحكم والسطوة، في تحالفات شديدة الحساسية عبر تاريخنا الإسلامي، إلا أنه، كفكر، لم يشيد صرحاً واضح المعالم يخدم أفكاره السياسية بسبب التصفيات الفكرية، وللطبيعة الطبقية للمجتمع الإسلامي فى قبائل العرب بالبادية، أو الحضر التي تم فتحها، فالشورى كمبدأ قرآني ظل حبيس الآية الكريمة، ومحصورة في استشارة النخب والصفوة، مما جعل الرعية رهينة بيئتها المجتمعية على مدى تاريخنا ضمن تحالفات الساسة ومذاهب الدين وتياراته.

والآن يرفع الإسلام السياسي شعار أن "الشورى لا تتعارض مع الديمقراطية"، متجاهلاً دور المواطنة كلبنة أضحت حاسمة فى أي بناء ديمقراطي بالعالم، الذي لازال مهموماً بأفكار مختلفة لترميم الديمقراطية كنظام سياسي، لا يخلو من الهفوات والأخطاء بحكم عامل الزمن على عمر الحياة الديمقراطية ذاتها.

فالبارز في "اللاهوت العربي"، بحسب تسمية يوسف زيدان2، لم تبرز منه حتي الآن إلا تبريراته للعنف، وسعيه لخلق دولة دينية مُدسترة، لازالت أجندتهم فيها دون مستوى معايير العصر من مواطنة وشورى وحرية وكرامة وعدل دنيوي.

لازالت اجندتهم فيها دون مستوى معايير العصر من مواطنة وشورى وحرية وكرامة وعدل دنيوى.

اليوم، وفى ليبيا تحديداً، حيث لازالت جدلية الدستور تحتل مكاناً بارزاً في النقاشات العامة والخاصة، وسط تجاذبات بين التيارين الديني واللاديني، وغيرهما من الأطياف الأخرى، لازال الفكر الدينى المسيس يطالب بلاهوتيته السياسية بالدولة الدينية، رغم العوز الشديد في مرجعيته الفكرية لرسم نظام حضاري يضاهي الدولة العصرية بروحها المدنية المحايدة أمام الرب وأمام الناس. فهذه الأفكار، على ما يبدو، لازالت لم يستوعبها المنظر السياسي في التيار المحافظ!.

عباسى مدني، الزعيم السابق لجبهة الإنقاذ الجزائرية، لم يخف ذات يوم من العشرية السوداء، أن الديمقراطية بالنسبة له ما هي إلا قطار للوصول لمحطة الرئاسة معلناً أنه لن يتخلى عنها بعدها، بينما أنصاره كانوا يرددون "إسلامية عليها نحيا، وعليها نموت"، بل إن الإسلام السياسي، في الربيع العربي، تباكى على الشرعية في مصر، ونحرها في ليبيا بلا أي رأفة.

من الواضح أن الإسلام السياسي بالمنطقة، يمارس السياسة للسياسة، وبلا مرجعية حقيقية تتبنى الواقع بحلول لإشكالات الراهن، وبرؤية لغد أفضل. فالدولة الدينية، اليوم، مكانتها بين مصاف الدول لا تحوز خاصيّة، بل إن نظامها المؤسسي ينظر إليه كحالة نشاز، ولن يكون محل إبهار في العالم الديمقراطي، للاعتقاد السائد بأن الروحانيات وحدها لا تكفل مؤسسة ديمقراطية في عالم السياسة.

هامش

1- اللاهوت السياسى. كارل شميت. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. قطر. ط1. 2018.
2- اللاهوت العربي وأصول العنف الديني. يوسف زيدان. دار الشروق. القاهرة. ط1. 2009.