Atwasat

5 -القبلة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 أكتوبر 2021, 11:05 صباحا
محمد عقيلة العمامي

الثقافة أن تتسع المعارف في عقلك، تتوهج فيه قناديلها، وتحف بك متعتها، وسوف تجدها في أشياء بسيطة قد لا ينتبه إليها غيرك، في نملة مسرعة بقمحة أكبر من حجمها، أو في حمام يعرف كيف يجد قوته، في ساق تفتق من نواة تمرة، فبزغ رأسه بشوكة وكأنها سلاحه يدافع به عن وجوده، تجدها في زهرة ياسمين، أو في زهرة صبار. تجدها في شركائك في الحياة: أهلك، رفاقك، جيرانك. في الحيوانات التي تشاركنا هذا الكون البديع، كقطة الجيران، أو (كلب جارك القنصل)، في مهارة وسرعة بائع الفول عندما يتحلق حوله في الأصباح الكثير من رفاقنا في الإنسانية، يسدون به رمقهم قبل الانطلاق، لتنظيف سيارة الباشا، واستلام حقيبته ويسيرون بها خلفه نحو عربته، أو يداعبون أطفال «الست» وهم في طريقهم نحو مدارسهم.

أو فيما يبدعه الرسامون والشعراء. في ابتكارات البشر في الماضي والحاضر، في التدبر في هذا الكائن المرعب، الذي لا أحد يعرف على وجه الدقة، متى ولد وكيف تطور؟

حقائق بسيطة، ولكنها وسيلتنا لمعرفة الخوارق. مُتع ومعرفة نراها منذ أن نستيقظ حتى ننام. بعضنا يتدبر فيها، وبعضنا ينطلق، ولا يرى سوى ذاته! فيما يتأمله حكيم، يجلس على صندوق خشبي فارغ، متكئاً على عكازه، أمام محل بقالة شارعهم، راثياً لحاله.

صديقان من رفاق (قهوة سي عقيلة) حببا لي مبكراً الثقافة والمعرفة، هما محمدان، أحدهما ابن خال الثاني، لا أذكر، مطلقاً، متى رأيتهما أول مرة.

كنت أصغرهما سناً، وكانا بمثابة شقيقيّ الكبيرين، لولا سي محمد، وهو أكبر سناً بفارق بسيط من محمد الآخر، لما أتممت دراستي. وقد وضحت ذلك في قهوة سي عقيلة. محمد الأصغر له شقيق اسمه محمود، وهو في مثل عمري تماماً. نحن مولودان سنة 1946.

درسنا معا بكّتاب الفقي (لامين) في جامع سي محمد بشارع نبوس، ثم في مدرسة الأمير، تفوق هو وسبقني. كان نشطاً منذ صغره، كُلف بسبب ذلك لاختيار عناصر ممن هم في مثل سنه، لمؤسسة الكشافة الليبية الوليدة، وعندما دخل الفصل لتنفيذ هذه المهمة، كنت على يقين أنه سوف ينتقيني، ولكنه لم يفعل. كانت تلك أولى الخيبات المؤثرة في حياتي، التي لم أجد لها مبرراً وبسببها لم أسع أبداً للالتحاق بهذه المؤسسة، على الرغم من رغبة حقيقية في أن ألتحق بالكشافة، وكان بمقدوري أن أفعل، ولكنَّ إصرارا رهيبا تملكني ألا أفعل! غير أن تلك التجربة علمتني أهمية السعي الحثيث نحو ما أريد تحقيقه، وألا أترك أمري إلى أحد ما، مهما كان قربه مني، وأعتمد عليه في أن ينتبه إلى ما أتطلع إليه.

تلك التجربة، جعلتني آخذ بالجد كله القول الليبي: (من يشبحك بالعين لا توميلا) بمعني أن من يراك بالعين المجردة، لا تُلفت انتباهه إليك!
مع المحمدين، تعلمت وأقمت أول علاقة مع فتاة - كُنت قد قبّلت قبلها قريبة لي- وتجرأت وقبّلت هذه الفتاة! وتكررت قبلاتي لها، فلقد كان تقبيلها مميزاً! لدرجة أن علاقتنا استمرت طويلاً، وخيل لي أنها وصلت مستوى الحب. وحدث أن سمعت أحد المحمدين يتحدث عن نوع تلك القبلة، وفهمت أن اللسان له دور فيها، وهي من سلوكيات الغرب! واستغربت كثيراً كيف أن (حبيبتي) عرفت هذه القبلة وتعلمتها، ولم يهدأ بالي حتى سألتها، وعرفت منها أنها تعلمتها من فتاة يونانية، كانت صديقتها وهي من علمتها هذه القبلة. الأمر، إذن، على الرغم من سطوة السلطة الذكورية، أبعد كثيراً من مجرد قبلة!
في ذلك الوقت كانت الحياة بسيطة جداً، والسلطة الذكورية تبلغ مداها، كان حجب البنات، في البيت ينفذ بمجرد أن يبرز نهداها، ولقد قمت بذلك لأكبر شقيقاتي. ولم تعد تخرج سافرة، شأن بقية الإناث في ذلك الوقت. حتى بعض فتيات مدرسة الأميرة للبنات القريب من شارعنا، يذهبن إليها بخمار أسود يغطى الوجه، وهو ما كان يعرف بـ (البيشا).

حادثة القبلة، جعلتني أنتبه، وأعي جيداً أن السلطة الذكورية، مثلما كانت تنفذ لا تنجح أبداً مع طبيعة الحياة، ولقد استفدت كثيراً من تلك التجربة، فلا يمكن أن تحجب الشمس ولكن بمقدورك أن تتجنب حرارتها، وتستفيد منها، وهذا ما فعلته عندما وجدت نفسي في معترك الحياة مسؤولاً عن أربع شقيقات.
خلال دراستنا الثانوية المسائية، حظينا، وصديقي عبد المجيد، برفاق جيدين، منهم أحمد المعداني، والمبروك العقوري، ومفتاح الهلالي، وبركه الفسي، ومفتاح المطردي، وعبدالقادر البعباع، وإبراهم الرايس ولكن معظمهم اتجهوا إلى دراسة القانون، وكاد عبد المجيد أن يلحق بهم، ولكن الحال تغير مثلما وضحت في الجزء الأول من (قهوة سي عقيلة)..

طوال دراستنا الثانوية، كانت لنا حياتان منفصلتان تماماً عن بقية رفاق تلك المرحلة؛ فبقدر ما كان الرفاق ملتزمين إلى حد كبير، كنا متهورين، متحررين حد درجة الضياع. ولكن جانبي حياتنا لم يتأذيا، أو يتطاولا، على بعضهما البعض. مباهج الشباب فقط أخذت منا ليالي ضياع طويلة مارسنا خلالها كل ما لا يخطر على بال. وبقدر انضباطنا اليومي بدراستنا الثانوية، وكذلك الجامعية، كنا نقضي ليالينا، بعيداً في سهرات، لا تتفق وأخلاقيات طلبة جامعة ذلك الوقت! رفاقنا يعرفونها، بل بعضهم شاركنا فيها، ولكنهم لم يستمروا.

كانت النوادي الليلية، منتشرة حتى سبتمبر 1969، كان منها «الريفيرا، واللوكس، الأريزونا، البرنتشي، والناشيونال» أما بعده فتحول ما كان يدور بها إلى سهرات خاصة، شاركنا فيها بعض الرفاق ولكن من باب المعرفة وحب الاستطلاع ولكنهم لم يستمروا. أصبح لنا زملاء ورفاق من قهوة سي عقيلة، ومن رفاق عملنا، ولكنهم لم يستمروا مثلما واضبنا.

كان أول الرفاق الذين تعرفتُ عليهم عن طريق عبد المجيد، هو رافع، ولم تنته علاقتي به حتى بعدما انتقل مبكراً للعمل بطرابلس، واستمرت حتى رحيله، ولعل من طرائف المعرفة أننا سافرنا معاً من بعد نيلي الشهادة الثانوية، لقضاء إجازة في اليونان ولكن رافع فاجأني برفقة ثالث، كنت أعتقد أنه ثقيل الظل، ولكن لم يكن كذلك، ولقد سعدت برفقته البهيجة، واعترفت له بالغمة التي طوقتني عندما رأيته، واعتذرت عن سوء ظني، ومنها ما زال رفيقاً رائعاً حتى كتابة هذه الأسطر. في تلك الرحلة ذهبنا إلى جزيرة (رودس) ومن هناك عدتُ بضلع مكسور وكتف مخلوع؛ إذ بدأ الأمر بجدل مع جندي أميركي من المارينز وانتهى بي محمولاً في (باريلا) إلى أقرب مستشفى، كان ذلك بعد شهر من هزيمة يونيو 1967!

وعن طريق عبد المجيد، تعرفت على عبد الله، الذي كان قد رجع من دراسته في بريطانيا، ليتولى إدارة شركة للمقاولات، كان مكتبها باديء الأمر في شارع بئر بلال، ثم انتقلت إلى عمارة الجبل الأخضر، ومنذ ذلك اللقاء استمرت علاقتنا، وإن كانت باعدت بيننا الأيام. ثم تعرفت، أيضاً، على محمد، ابن عمه، ومنها بدأت علاقة رائعة دافئة ودودة بحق، بل وكانت عوناً مبكراً لي في مسيرتي التجارية، وتعرفت على مصطفى، أحد أروع أصدقائي لنتواصل حتى الآن، ظل شهماً، كريماً، يجده المرء بجواره متى التفت، حتى وإن فتُرت صداقتنا لسبب ما! كان لي أيضاً رفيق خاب ظني فيه لسوء فهمه، وأيضاً بضعة أشياء أخرى!.

ولقد توقعت أن أكون «سعيداً» في الخريف، ولم يخب ظني! على الرغم من معرفتي، ويقيني أنه يقضي على أوراق الحياة، ولكنني ظللت على الدوام موقناً أن الاهتمام بأشياء الإنسان البسيطة والصغيرة، وما تمنحك من دفء لقادرة على بسط ذراعيك في وجه الريح، وليالي الشتاء الباردة الكئيبة، فالأغصان، وإن فقدت أوراقها، دافئة ممتلئة بالحياة وستزهر مجدداً في الربيع، وتمنح الحياة لمخلوقات الله الصغيرة. للفراشات، للجنادب، وصغار العناكب، والعقارب أيضاً! فأنت تعلم أن جمال الحياة أقوى بكثير من بشاعتها؛ فلم، ولن «أجري أمام الكلاب»، ولا أمام الغبن ولا العجز، لأنني على يقين أن الإنسان الحقيقي «يُدمر ولكنه لا يهزم».. هكذا قال رواد اهتماماتنا الأدبية، وهكذا تقول الحياة فانظر من فوق أنفك وانطلق - كعادة الإنسان الحقيقي - إلى الإمام بقلب ممتليء بالخير والنوايا الطيبة.. فالله مبدع الحياة، على الدوام، مع الأنقياء من عباده، ولن يخيب أبداً من يعلم أنه خليفته في الأرض.