Atwasat

مجتمع (البتاع)

رافد علي الخميس 21 أكتوبر 2021, 10:22 صباحا
رافد علي

كان للفيلسوف النمساوى الأصل كارل بوبر الفضل في طرح مفهوم المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق بالنصف الأخير من القرن الماضى، وقد عَمِلَ، من بعده، علماء الاجتماع والاقتصاد والفلاسفة على ذات المصطلح لتطويره بما يتجاوز بُعد بوبر السياسي الذي كان موجهاً لنقد الماركسية وداعياً لليبرالية.

ما يثير الاهتمام في طرح بوبر في كتابه المجتمع المفتوح واعداؤه* محاولته نقد التاريخانية بكونها معتقدا عاما يُدَّعى أنها على مقدرة على قراءة التاريخ وسن قوانينه الخاصة، بما يسمح بالنبوءة بالمستقبل، فبوبر يفند هذا الطرح بسبب تمسكه بالعقلانية وروح العلم، إذ يعتقد أن هناك "تجاهلاً في التميز بين التنبؤ العلمى والنبوءة التاريخية"، وقد عزز جدليته هذه في كتابه "عقم المذهب التاريخى" الذي ناقش فيه الفلسفات الاجتماعية المتنوعة التي تتبنى التاريخانية، مبيناً أنها رغم معقولية الطرح فيها، إلا أنها تستند إلى "سوء فهم جسيم لمنهج العلم"، فهي إطروحات تقدم وجهة نظر شخصية قابلة للتداول والاجترار.

اليوم، ومع اتساع مفهوم المجتمع المغلق في وجه التحولات التي نشهدها، نجد أن المجتمع المغلق كتلة غير مستعدة لأي انفتاح في نمط حياته وعقليته التي تسوده، والتي تكون دون مستوى العصرية كمضمون لروح الزمن الذي يتجاوز منطقتنا بكل ما فيها من قبلية وطائفية وجهوية واعتقاد بامتلاك اليقين والتعالى العرقي والجنسي، ما يسجل علينا جميعاً بأننا مجتمعات عربية لازالت تجد نفسها دون الانفتاحات التي حققها الإنسان المعاصر، كما في قضية المرأة وحقوق الإنسان، بسبب أننا نرزح تحت سطوة أنظمة شمولية مجتمعية ومعرفية وسياسية بشكل أساس.

جورج سوروس، رجل الأعمال المثير للجدل، يرى في كتاباته المختلفة عن تجربته باوربا وآسيا وأمريكا الشمالية، أن انهيار المجتمع المغلق لا يقود تلقائياً إلى المجتمع المفتوح، بل قد يؤدي إلى الاستمرار في الانهيار والتفكك بسبب ميراث الآيديولوجيا والشمولية النظامية والدوغمائية التي تعم المجتمع المغلق**. فالمجتمع المغلق ليس مجتمعاً متسامحاً مع نفسه بسبب حالة الكبت الرائجة، ولأن الفرد فيه لا يتمتع بقيمة ذاتية تسمح له بالإبداعية والابتكار، وفوق كل شئ لا يملك الفرد استقلالية شخصية توضح ملامحه الإيجابية في الطرح والبناء والمساهمة فيه كجزء من المجتمع، كما أن النخب النافذة بالمجتمع المغلق تتجاهل أن تأويلها المغلوط أحياناً كثيرة للتعايش مع الواقع الإشكالى هو سبب من أسباب الأزمة، لأنها باختصار نتاج حالة تشبت عنيد بسوء تفسير وتأويل للواقع الحقيقي. فالعصمة للمباديء المرفوعة في أي مجتمع مغلق تشكل حالة "اللا عصمة"، لأنها عصمة بقصد حماية مصالح النافذين رغم كل خطاباتهم الشعبوية وتبريراتهم فيه.

للخروج من قوقعة المجتمع المغلق علينا بدراسة أنفسنا لمعرفتها علمياً بدل الركون لحلول السياسة المرتكزة غالباً على قرارات فوقية بعيدة عن روح العلم والعقلانية فيه. البورقيبية في تونس، علي سبيل المثال، رغم روحها التغريبية لم تفلح، كما يبيّن الواقع الراهن، في كبح جماح الإسلام السياسى المتطرف عن أن يفقد حيوته كتنظيم نشط في الظلام، يتنامى ويترعرع حتي بدت منظمة عقبة بن نافع ومعها حركة أنصار الشريعة من أبرز المنظمات النشطة عالمياً في تسفير وتهريب الإرهابيين للمناطق الساخنة في العالم، وخصوصاً الشيشان والعراق وليبيا وسوريا تباعاً.

لعل من أشهر ما قيل عن الانفتاح في المجتمع العربي بصورته الفوقية قصيدة "البتاع"، للمرحوم الشاعر أحمد فؤاد نجم، التي تهكم فيها على سياسة الانفتاح الساداتي بعد سنوات الناصرية بقرار سياسي محض أربك المجتمع المصري حينها، إذ ظل في قبضة شمولية سياسية ومجتمعية ومعرفية واقتصادية أيضاً، تفرضها إرادة الدولة المقتحمة لعالم السوق المفتوح ارتجالاً. يقول أحمد فؤاد:
يلي فتحت البتاع
فتحك علي مقفول.
لان أصل البتاع
واصل على موصول
فأي شئ في البتاع
الناس بتشوف على طول
والناس تموت في البتاع
فيبقى مين المسؤول؟!

وهذا الحال ينطبق على واقع مجتمعات وسياسات أخرى بالمنطقة العربية، فالانفتاحات التي شهدتها شعوبنا في بلدان أخرى تكاد تكون متشابهة الآثار لما حدث في مصر، بفضل قرار سياسي محض يتجاهل انغلاق الاجتماعيات وحقيقة صيرورتها، فنحن نبقى شعوباً منغلقة علي ذاتها- بنسب متفاوتة- وتسودنا التاريخانية بسطوة الطوباوية، وتفترسنا فيها ظاهرة الاستهلاك، وبلا ترسانة علمية رصينة تجادل بقوة، وتطرح البديل بشرف، فقد كنا تاريخياً مجتمعات "بتاع" الحاكم، ولم نكن يوماً "بتاع" أنفسنا كمجتمع يكفر بانغلاقه بجلاء.
وساد قانون البتاع
ولا علة ولا معلول!
والقاضي تبع البتاع
فالحق على المقتول!
والجهل زاد في البتاع
ولا مقري ولا منقول
والخوف سرح في البتاع
خلى الديابة تصول
يبقي البتاع في البتاع!.

هامش.
*The Open Society & its Enemies. K.R Popper. Routledge & Kegan Paul. London & NY 1986.
**The age of Fallibility, George Soros. 2006.. Published in the USA by public Affairs, a member of the Perseus Book Group.