Atwasat

لقاء في طنجة

سالم العوكلي الثلاثاء 19 أكتوبر 2021, 09:49 صباحا
سالم العوكلي

العام 2008، التقيت في أحد مقاهي المدينة القديمة (القصبة) في طنجة بسائح سويسري، اعتقدت للوهلة الأولى أنه قادم من فردوس، كان يتحدث العربية لأنه عاش ودرس لفترة بين بيروت والقاهرة ، وفاجأني بحديثه المسترسل عن جحيم سويسرا الهارب منه إلى فردوس المغرب. استغربت في البداية، لكن مع التفاصيل بدا قصده يتضح، إنه كما قال لا يحس بالحرية الشخصية إلا حين يأتي إلى المغرب متحدثا عن القوانين الصارمة التي تضبط حياته هناك دون أن يعرف من أين تأتي هذه القوانين لأن الجميع يمقتونها أفراداً، ولكنهم كجماعة يقبلونها ويستسلمون لها كقطيع. حين حاولت مناكفته بالحديث عن الحرية المتأتية من منظومة التخلف، أوقفني، وقال: لا يوجد شيء اسمه حضارة أو تخلف. ثمة إنسان حر فيما يفعل وإنسان غير حر.

وطبعا الحديث عن الحرية من قبل شخص قادم من أحد معاقلها كما نتصور سيكون مربكا لشخص قادم من أحد معاقل الاستبداد. أثناء حديثه تصورت أنه سيكتشف وفق منظوره مزيدا من الحريات لو جاء لليبيا البلد غير السياحية في الأصل، حيث تقود سيارتك دون تأمين وتوقفها أينما تشاء وحتى فوق رصيف، ترمي كل ما يزيد عن حاجتك وقمامتك حيث تريد، وتدخن حتى في غرفة الإنعاش في مستشفى، تقطع الأشجار كما تشاء وحتى كوابل الكهرباء والألياف البصرية، وتقيم مطبا ضخما على الطريق السريع دون أن يعترضك أحد.. إلخ، وكان كل هذا يحدث في تلك الفترة التي لا يطال فيها القانون إلا من يهدد النظام السياسي. بالتأكيد هي حريات ناتجة عن التسيب، لكنها أيضا تطرح سؤالا فيما يخص خيارات الإنسان، أو على الأقل سَن القوانين على قاعدة الحقوق الإنسانية الذي لم يكن ممكنا في أيديولوجيا غيرت اسم كلية الحقوق إلى كلية القانون، وقسم الفلسفة إلى قسم التفسير.

وفكرت لو عرضت عليه تبادل الحريات بهذا التصور السياحي بين وطني ووطنه فمن سيكون الخاسر؟ لكن لقائنا على ضفة الأطلسي في نزهة تلبي رغبة الاثنين ربما يرجع إلى طبيعة مملكة مستقرة تُراكم خبراتها لتوائم بين هذه الحريات، أو تضحي ببعضها لصالح بعضها، ما يجعلها وجهة أثيرة لكثير من الأوربيين، وأكيد للمغاربة رأي مختلف، لأن فقر المجتمعات يوفر رفاها للسائح، ولأن الحوار كان بين سائح قادم من دولة يضبطها القانون بصرامة وفي كل التفاصيل، وبين سائح قادم من دولة توصف بانها خارجة عن القانون دوليا ومحليا.

لكن، بغض النظر عن هذه المقارنات الدارجة بين الشمال والجنوب، هل حقا في دول القانون الصارم تضيع الكثير من الحريات اليومية التي هي جزء من حقوق الإنسان؟ وأن احترام هذه القوانين ـ شبه الميتافيزيقية بغموض مصدرها ــ يصبح مع الوقت نوعا مما يشبه الشعائر الدينية؟ وهل كان العالم منذ تفتق فيه وعي الإنسان بإدارة زحامه بهذا الكدر؟ وما موقف التاريخ من الرغبات الشخصية في سياق همينة البيروقراطية العاتية، خصوصا في نظام يقيس صواب الأعمال بقدر ما تعزز من سعادة المجتمع؟.

يقول ميلان كونديرا في كتابه الستارة، ترجمة معن عاقل: "تتحول باستمرار التصورات الجمالية إلى أسئلة؛ فأتساءل: هل التاريخ تراجيدي؟ لنقل ذلك بشكل آخر: هل لمفهوم التراجيدية معنى خارج القدر الشخصي؟ عندما يحرك التاريخ الجيوش والجماهير والضغائن لا يعود من الممكن تمييز الإرادات الفردية؛ فطوفان التصرفات الذي يُغرق العالم يغمر التراجيديا تماما.

إلا أن هناك أهوالاً لن يعثر أي تنقيب أثري تحتها على أي بقايا للتراجيدية. ثمة مجازر في سبيل المال؛ والأسوأ، أيضا: من أجل حماقة. ليس الجحيم (الجحيم على الأرض) تراجيديا؛ الجحيم هو الرعب دون أثر للتراجيدية.

تقول الأسطورة أن الليبيين القدماء حاربوا القبلي حتى ردمتهم الرمال، ويبدو أن الملحمية أو التراجيدية هي روح هذا السرد الذي يجدون متعته أيضا في تأليف الملاحم الشعبية، وبالمثل كان تمرد سبارتكوس الليبي ونهايته المحسومة زاخرا بهذا الحس، غير أن الحروب التي نراها اليوم تسلب التاريخ هذا الحس وتجعل العبث هو بطل السرد أمام أسئلة حارقة وحارنة عن السبب، لكن حيت تسحق الفاشية أبطال الحرية فلن نجد أثرا للتراجيدية في هكذا صراع ومصير"فقد جلب هتلر لأوروبا ليس فقط الأهوال الفظيعة، بل وسلبها حسها التراجيدي".

لقد أقصيت الحروب الأهلية والثورات والثورات المضادة والنضالات الوطنية من هذا الفضاء الملحمي أو من أرض التراجيديا لتصبح تحت سلطة قانون وقضاة نهمين للعقاب، أو تتحول هذه المؤسسة المقوضة لروح التاريخ إلى محاكم شعبية تفتك بما يسمى الشعب، ويصبح الهزل سيد الموقف وروح التاريخ المستخفة بالجوهر الإنساني، أو بإرادة الفرد التي ينكل بها في حرب باردة يخوضها القانون ضد الشغف الشخصي، ويلاحقنا السؤال الأهم، لماذا كانت بدايات ثورات الربيع العربي مكتظة بالنكتة والطرافة؟ وأين ذهب ورع الثورات وتجهمها الأصيل والروح الملحمية فيها؟ وكيف، مثلا، تحول هتاف (ليبيا حرة) الذي كان شعارا قويا لثورة فبراير إلى نوع من التفكه حين أصبح شعارا طريفا للفوضى حيث كل شخص يفعل ما يريد في غياب القانون.

أتابع الآن سلسلة "البحث عن الإنسان البري" (Where the wild man?). التي يلاحِق فيها مقدم السلسة بِن فوغل جامحين وجامحات قرروا الهروب من الحضارة ومن سلطة القوانين إلى سكينة البرية وحريتها. كانوا موظفين مهمين ومدراء شركات ورجال أعمال وأكاديميين قرروا أن يتخلوا عن كل شيء وينعزلوا في البراري بحياة بدائية ملتحمة بالطبيعة، معبرين عن عثورهم على السعادة التي بحثوا عنها كثيرا في غير مكانها، مصبغين على حياتهم اليومية حسا ملحميا يشبه الرسومات التي تركها الليبيون الأوائل على جدران كهفوهم.

يقول هيجل الذي ربط الوجود بروح الطبيعة، أن الفن الملحمي تأسس على الفعل، والمجتمع المثالي الذي استطاع الفعل أن يتبدى فيه بحرية تامة هو مجتمع المرحلة البطولية اليونانينة، مبرهنا عليه بالإلياذة. حتى حين كان أغاممنون أول الملوك، فإن ملوكا آخرين وأمراء تجمعوا حوله بملء إرادتهم وكانوا أحرارا بالابتعاد عن المعركة. وسار الشعب أيضا مع أمرائه بإرادته الخاصة؛ فلم يكن ثمة قانون يرغمه على ذلك، ووحدها الدوافع الشخصية، معنى الشرف، الاحترام، الخضوع للأقوى، الافتتان بشجاعة بطل .. إلخ كانت تحدد تصرف الناس. وكفلت حرية المشاركة والنضال لكل واحد استقلاليته مثلما كفلتها حرية التخلي عنه. لذلك احتفظ الفعل بطابعه الشخصي، وبالتالي، شكله الشعري.

ويقابل هيجل ذلك العالم القديم، مهد الملحمة، بمجتمع زمنه المنظم في دولة، المزود بدستور وقوانين وقضاء وإدارة كلية القدرات ووزارات... إلخ، هذا المجتمع يفرض مبادئه الأخلاقية على الفرد الذي حددت سلوكه إرادات مجهولة قادمة من الخارج أكثر مما حددتها شخصيته الخاصة.

وفي مثل هذا العالم كما يقر كونديرا، ولِدت الرواية؟ وكما الملحمة قديما، تأسست هي أيضاً على الفعل. لكن الفعل في رواية يتمشكل، ويبدو كسؤال مضاعف: إذا لم يكن الفعل إلا نتيجة الطاعة، فهل يظل فعلا؟ وكيف يتميز الفعل عن الحركات الروتينية المتكررة؟ وماذا تعني بالملموس كلمة (حرية) في العالم الحديث البيروقراطي الذي صارت فيه إمكانيات واحتمالات التصرف في غاية الضآلة.

ويبدو أن هذا هو سؤال السائح الذي لم يعرف كيف يطرحه، وحين حدثته عن حرية التعبير التي أفتقدها في مكان جئت منه يشتهر بأنه دولة اللاقانون، رفع منفضة السجائر من على الطاولة وقال: هذه حريتي. ضحكت وتذكرت سؤالا وجِّه لي عن أجمل مشهد رأيته في دبي، فأجبت: بالنسبة لي، أجمل مشهد حين أرى منفضة سجائر فوق طاولة في مقهي، وحينها كان قانون منع التدخين في الأماكن العامة بدأ يسري هناك.

يبدو غريبا أن أتوقف عند هذه الاقتباسات المربكة لروائي يُنظّر في الأساس لفن الرواية، وأنا في مجتمع مازال يحلم بدولة القانون والبيروقراطية والإدارة الكلية، لكني أعيد محاولة فهم كلام ذاك السائح الذي أربكني حيال دولته التي كنت أراها نموذجا وفردوسا، وأتذكر بعض كلماته الفصيحة بلكنة شامية عن التكرار الممض، وعن البيروقراطية التي تبتلع حياته، والقوانين الصارمة التي لا يجد ملاذا منها إلا بمجيئه السنوي إلى المغرب التي يعتبرها بالمقابل فردوسه، محاكيا لو بشكل مؤقت هذه الهجرة الشرعية التي يقوم بها أبطال بِن فوغل صوب الخلاء هروبا من صخب الحضارة وأنياب الدوام الوظيفي التي تمضغهم يوميا حتى تبصقهم ذابلين على رصيف التقاعد.

لدي رغبة في أن أعود لتلك الحياة التي كنت فيها ملتصقا بالطبيعة، غير أن التمتع بمثل هذه الحياة يبدو أنه لن يصح إلا على هامش مترف لما تقدمه الحضارة، والأمر شبيه بإحدى الشخصيات البرية التي زارها فوغل وما انفك يَشتُم الحضارة والسوق والاستهلاك والوظيفة، ثم اكتشف فوغل أنه كل فترة يذهب إلى المدينة ليحصل على طعامه من أوعية القمامة، وعلق فوغل: أنه يأكل من مخلفات الحضارة التي يشتمها. ربما هذا ينطبق على السائح في طنجة الذي يحن إلى حياة بدائية من منطلق الترف، أما أنا فيبدو أن حنيني كان من منطلق الوهن.

كان هو يستمتع بإجازة مختلسة من كآبة حياة منضبطة، وأنا استمتع ببعض الانضباط المختلس من حياة كلها إجازة لا أثر للفعل فيها.

وأفهم الآن لماذا كان هنري ميلر يسمي وطنه أمريكيا "الجحيم المكيف"، ولماذا قلتُ عن ليبيا: أنا المازوخي سليلُكِ .. الوالغُ في لهيب فلفلك الحار.. تملأينني خوفاً وأحبك.