Atwasat

4- أيام قُفةُ القُطامةُ

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 أكتوبر 2021, 09:55 صباحا
محمد عقيلة العمامي

رفقة صديقي عبد المجيد، انطلقتُ صباح يوم شتوي، ولكنه غير ممطر، لعله في شهر نوفمبر من سنة 1968 من أمام دكان (قدوره)، الذي حل محل قهوة سي عقيلة، بناصية شارع نبوس. بعد منتصف ليل القاهرة بقليل وصلنا كازينو (الأوبرج) بشارع الهرم. أخذ حارس العربات مفاتيح سيارة عبد المجيد الرياضية البيضاء الأنيقة، كانت موديل (مارك تو) وكانت الوحيدة التي وصلت توكيل السوسي لسيارات التويوتا في بنغازي؛ كان عبد المجيد حينها مديراً لصالة عرضها بناصية عمارة الجبل الأخضر، في مواجهة مبنى الجامعة الليبية، التي تأسست سنة 1955 بقصر المنار بشارع الاستقلال في بنغازي.

من طفولتنا كنا صديقين، أذكر جيداً كنا نلعب أمام قهوة سي عقيلة نصنع كراسي ومناضد من أغطية زجاجات المياه الغازية، ونعرضها للبيع تحت اسم شركة (ماك ستاندر) ثم طورناها بحلول المولد النبوي، وصرنا نصنع القناديل الورقية.

فترة الصبا ماثلة أمامي، وكأنها يوم أمس. ننطلق نحو ساحة الكاتدرائية، لنراقب فتيات النادي الكاثوليكي، ونسرق النظر لنرى سميرة، في نافذة شقة بيتهم، عند ناصية الشارع، الذي يقودك نحو مبنى الإذاعة. شاهدنا معا أفلام فريد شوقي، وحضرنا عرض رصيف نمرة 5 أكثر من مرة، وعرفنا جميع ممثلي وممثلات، ومطربي ومطربات ذلك الجميل. كانت سينما النهضة هي المفضلة لدينا لقربها من بيوتنا، وأيضا لأن ثمن التذكرة قرش ونصف.

وباعدت بيننا الأيام من بعد انتقاله من شارع نبوس، إلى بيت أخيه وأخينا الكبير رجب، الأهلاوي الكبير! في مشروع إدريس للإسكان، والتقينا مصادفة أمام مدرسة الأمير وسجلنا معاً للدراسة المسائية، وأتممنا الدراسة الثانوية معا سنة 1967 والتحقنا بالجامعة الليبية طالبين بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، واجتهدنا في دراستنا الأكاديمية، وكذلك في الدراسات الحياتية الليلية، التي كانت متوفرة في بنغازي، ونجحنا تمامًا فيهما من دون أن تسيطر إحداهما تماماً على الثانية.

فتحتُ شنطة السيارة وقالت للحارس، من خلال مزحة ساخرة ولكنها جادة:
-«لو اختفت علبة صلصة طماطم واحدة، أو قنينة زيت؛ أو أية زجاجة من الزجاجات الأخرى، سوف تقضي بقيه عمرك في (ليمان طره)».

كان حارس السيارات يعرف أننا اعتدنا السهر مع شخصيات نافذة مشهورة، منها رشدي أباظة وعادل أدهم، ويوسف شعبان. كان النظام الاشتراكي في ذلك الوقت حرم الناس في مصر من الكماليات المستوردة كافة، خصوصاً المحرمة في الأساس، التي كانت حينها متوفرة بليبيا.

عند الفجر غادرنا نحو كافتيريا فندق الهيلتون، الذي كان الوحيد في ذلك الوقت من فنادق الخمس نجوم الأكثر شهرة، تظل مفتوحة طوال الليل والنهار. كنا جياعاً، فذهبنا إلى هناك مباشرة، رفقة عادل أدهم، ونجيب هلال، الذي كان يعمل حينها في بنغازي في شركة النهضة المعمارية التي يملكها صديقنا عبد الله، وكان لنا نعم الرفيق. وأكلنا كل ما وضعوه أمامنا، لم نترك شيئاً سوى الصحون والأمواس والملاعق!

هذه السنة، 2019 منذ ليلتين وصل عبد المجيد، إلى القاهرة، وكانت ست سنوات لم ألتقه خلالها وإن كنا على تواصل أنا في القاهرة وهو في طرابلس، ثم في بنغازي. وكان زمناً ليس بالقصير، قد مضى عن غيابه عن القاهرة. قال عبد المجيد:
- «القاهرة تغيرت يا أخي. قبل وصولك مشيت يميناً ويساراً متطلعاً إلى أن أعرف أين أنا، ولكنني، عدت سريعاً إلى الفندق، خشيت ألاّ أعود إليه. يا أخي على أيامنا لم يكن هناك مهندسين» ... قاطعته:

- «ولا بولاق الدكرور، ولا فيصل، ولا ميت عقبة ولا أرض اللواء. هنا كانت بداية الطريق الصحراوي نحو الإسكندرية الذي كنا لا نقطعه في الليل، فالطريق كان ممتداً وسط صحراء قاحلة.

- «صحيح .. صحيح! أتتذكر يوم رفض سائق التاكسي الذي أخذنا مساءً من أمام فندق (الشيراتون) أن يدخل المهندسين، واحتد النقاش وقلت أنت له، أنك ستعطيه خمسة جنيهات كاملة». فأجاب محتداً: «ولا مال قارون! مين الحمار اللي يدخل هنا بالليل». وأصر على أن نغادر سيارته التي أوقفها أمام مسرح البالون، ههههه أتذكر تلك الليلة؟

- «نعم أتذكرها، وأتذكر نجيب هلال عندما قال له: «يا تخش.. يا مفيش فلوس»! فأجابه: «في ستين داهية انت والفلوس» وقاطعني عبد المجيد:

- «صحيح! نجيب هلال كان معانا». ثم انتبه كما لو أنه تذكر شيئاً، والتقط هاتفه، واستطرد: «نجيب هلال هنا في القاهرة، ترك الأردن. قال لمصطفى إنها أصبحت غالية ولم يعد بمقدوره أن يعيش في عمان. مصطفى أعطاني رقم هاتفه» وأخذ يبحث عن رقمه، إلى أن وجده:

- «اهو».. ثم طلب الرقم، وحاول أن يخفى صوته إلاّ أنه انفجر بعد قليل، ضاحكاً، فلقد عرفه نجيب، وعندما سأله عبد المجيد أن يلتحق بنا، أجابه:

- «ياه» دنا افتكرتكم بقيتم بني أدميين واتصالكم من أجل أن تهنوني بعيد الغطاس، إيه؟ هو أنتوا لسه صيّع؟» وأصر أن نفطر صباح اليوم التالي بمنزله القريب من محل إقامة عبد المجيد.

تلك الليلة عرفت أن هذا العيد هو بمثابة عيد ميلاد المسيح بالنسبة لإخواننا المسيحيين الأرثوذوكس، وهو يوم 19 من شهر يناير. فكانت بينها وبين تلك الليلة، التي وصلنا خلالها القاهرة سنة 1968 التي انتهت بإفطارنا الصباحي بهوتيل الهيلتون نصف قرن بالتمام والكمال!
في صباح اليوم التالي، جاءنا في الموعد وفطرنا معا رفقة أبنائه وأحفاده أيضاً. وحكينا عن تلك الليلة وإفطار اليوم التالي الباذخ. ثم قال نجيب مازحاً: «أتتذكرا يوم مررتما عليّ في بيتي، ذات صباح وفطرنا سوياً، وتحدثنا عن معاناتكما الليلة السابقة لأنكما لم تجدا ما تأكلانه في بيت صاحبك»؟ ثم سأل عبد المجيد:
- «أتذكر يا عبدالمجيد صباح ذلك اليوم، عن معاناتكما تلك الليلة؟ من بعد السهرة التي قضيناها معا بملهى اللوكس الليلي في بنغازي» أجابه عبدالمجيد:

- « لا والله! يا أخي ذاكرتي اهترت أصبحت «نص كم» وأنت تعرف ذلك، لكن ذاكرة الحاج محمد قوية، وكثيراً ما حدثني عن أحداث لا أذكر أبداً أنني طرف فيها». ثم سألني إن كنت أتذكرها؟ أجبته:

- «نعم أتذكرها جيداً، عدنا سوياً إلى بيتي، فلقد تأخرنا، وكان سكن عبد المجيد بمشروع إدريس للإسكان. وكنا جياعاً، وفتشت البيت كله، ولكنني لم أجد شيئاً يؤكل فاتجهت، نحو «قُفةُ القُطامةُ»، وانتقيت منها كسر الخبز، ونفضتها وغمرتها بالماء وسكبت قليلاً من الزيت، وأكلناه بملعقتين مع رأس بصل حويل وحبة طماطم!. ثم استطرد: «كنا بالفعل فقراء ولكننا لم نبدُ كذلك على الإطلاق»!

- «وما زلنا كذلك»! كذلك عقب عبد المجيد، واستطرد: «ولكن لماذا تقص هذه الحكاية التي مر عليها أكثر من نصف قرن»؟. فأجبته:

- «لأنني أحس لأول مرة أن البرد وصل عظامي، وما كان يتجرأ أن يصلها من قبل؟ حتى في ليالي «قرة العنز». قد تكون هذه الليلة هي تلك الليلة، التي وصلنا فيها كازينو الأوبرج بشارع الهرم. برد نوفمبر أو ديسمبر سنة 1968 هو برد هذه الليلة، ولكن الفرق فقط هو أن عظامنا لم تعد تلك العظام نفسها!!»
ضحكنا بخفوت، وهززنا رؤوسنا البيضاء، باستثناء نجيب، لأن رأسه خلا تماماً من الشعر، ثم استطرد عبدالمجيد قائلاً: «واو .. أكثر من نصف قرن» صمت قليلا ثم أضاف بحسرة: «كانت أعوام خير، ولم تكن كلها سنوات عجافاً»؟

طوال قعدتنا في بيت نجيب لم يتوقف الضحك، كانت البهجة تحف بأبنائه وبناته، وأحفاده، التعقيبات والتعليقات الساخرة والضحك المتواصل لم يتوقف، لا بين الذكور ولا بين الإناث، فيما كانت ضحكاتي، وعبد المجيد، تموت سريعاً كما لو أنها مشاركة لا يحق لنا أن نحضرها. كانت الأطباق بسيطة ولكنها لذيذة، أصهاره وبناته، وزوجات أبنائه يقدمونها يتحركون وكأنهم شركاء في مطعم، أو ندل فيه. لم تخلُ التعقيبات من مناكفة بهيجة. وخيل لي أن مسحة حزن أطبقت عليّ، وعندما قام نجيب متجها نحو المطبخ، سألني عبد المجيد متبسما وبهدوء:

- «أين رحلت يا رفيق العمر؟» فأجبته متبسماً:

- «إلى قن الدجاج!!»

- «ماذا؟ دجاج»! وانفجر ضاحكاً. كان نجيب قد اقترب منا، ممسكاً بزجاجة، فتساءل:

- «ماذا... أتريدون دجاج»؟

- «لا يا راجل، لا أدري ما الذي جعل الحاج محمد يفكر في (بونية دجاج)» أجابه نجيب:

- «تقصد خم دجاج»! ولكنني أجبته مؤكداً:

- «قن! يبليك الله بـ (جن).. ما هذه الزجاجة»؟ فأجابني:

- «عرق من بعلبك! لكن ليس لديّ جبن (الكاما مبير)! واستطرد: «أتتذكر يا مجيد يوم طلب، هذا المعفن، هذا الجبن، يوم كنا في مطعم (البيكولو موندو) في روما؟ وانفجر ضاحكاً (الكاممما مبير) هكذا قالها وكأنه ولد أحد نبلاء فرنسا، الذين لا يشربون النبيذ الأحمر إلاّ مع هذا الجبن، وأنا الذي أعرف أنه لم يدخل بيتهم سوى الجبن، الذي كانت توزعه الأمم المتحدة على أطفال المدارس بالمجان!.. والتفت نحوي وقال هازئا: (الكاما مبير)!

- «هاهاها».. ضحك عبد المجيد، واستطرد: «جبنه ودجاج! لو تقصد أن صخب أحفادك والبنات، ذكرك بالدجاج .. نحن لسنا متضايقين منهم، بل بالعكس مبسوطين من لمتهم! أما إن كنت تريدها عذرا لتخرج به معنان فذلك أمر آخر» قاطعه نجيب ضاحكاً:

- «لا! يا أخي أنا أقصد شيئاً آخر تماماً»! والتفت نحوي: «هيا.. يا (بوحميد) والله مشتاقين لجبنة (الكاما مبير)! وأيضاً (خوارقك)».