Atwasat

ملاحظات عن الفن والصراعات

جمعة بوكليب الخميس 14 أكتوبر 2021, 10:55 صباحا
جمعة بوكليب

رغم أن الفن عابرٌ للأجيال وللحدود، يظل للقديم منه نكهته الخاصة، التي تلاقي قبولاً وشغفاً لدى البعض، ويظل للجديد، أيضاً، تميّزه، وقدرته على فرض حضوره. ومعاً، يوثقان لتطور نمو الوجدان الإنساني وتحوّلاته فنّياً عبر مراحل التاريخ المختلفة. ولا مفر من الاعتراف بأنّه مع كل جيل جديد تولد هُوّية فنّية بملامح متميزة، إلى حدّ ما، عن الجيل الذي قبله، وحقيقة أن لكل جيل سحره وإبداعه وذائقته الفنية. والتعارض، أو بالأحرى والأصحّ، الاختلاف، الذي، نرصده طافياً، بين حين وآخر، فوق سطح الواقع، وفي مسارب الحياة اليومية العديدة، بين القديم والجديد، ليس غريباً تماماً، كونه طبيعياً. ولذلك، يبدو من الممكن ليس فقط رصده بسهولة، بل تفهّمه واستيعابه، والتعامل معه على هذا الأساس، من دون حاجة للجوء للتعصب.

وما دعاني للحديث عن هذا الموضوع تلك الأحكام - غير المنصفة في نظري - التي يصدرها البعض من الجيل القديم ضد الذائقة الفنية للجيل الجديد، ولا تغيب عن ملاحظة الكثيرين، وتصل، في بعض الأحيان، حد الاستهانة والتهكم، وإطلاق اتهامات مجافية للحقيقة، بغرض النيل من تلك الذائقة الجديدة ومبدعيها وعشاقها. وقد يرى البعض أن ذلك أمر طبيعي، ناجم عما يسمونه صراع الأجيال: جيل قديم يحاول ألاّ يفوته قطار الزمن، فيحاول تقييد حركة جيل جديد، لعرقلة سيره، ومنعه من التقدم. وجيل جديد يحاول الانفكاك من أسر القديم، وتخطي حدود مفروضة، واكتشاف ما وراءها.

تاريخ التطور الإنساني يعلمنا أن محاولة البعض كبح ذلك التغير محكوم عليها بالفشل، لأن الزمن بطبيعته ، ولحسن حظنا كبشر، لا يعود للوراء. ذلك الصراع، في الواقع، ليس مقصوراً على الفن، بل يمتد لقطاعات حياتية متعددة. ويتجلي أكثر في مناحي الحياة الثقافية عموماً.

لكن ذلك لا يمنع من التذكير بأن سطوة الذائقة الفنّية الجديدة، لا تكون كاملة تماماً، وخاصة حين تكون جزءاً من آيديولوجية النظام السياسي القائم. بمعنى أن جيوباً عديدة، تمثل المعارضة، تظل في منأى عنها. وفي تلك الجيوب تحديداً، يستمر القديم، ويواصل دورته الحياتية في الهوامش. وقد تتاح له فرصة الانتشار، إذا واتته ظروف مناسبة: اجتماعية وسياسية واقتصادية. ومثال ذلك، ما حدث خلال سنوات الحكم العسكري في ليبيا، وسعيه إلى فرض ذائقة فنّية، بسمات وخصائص معيّنة على الذوق الفني العام، ونجاحه في ذلك إلى حد ملحوظ. إلا أن التمادي في فرض تلك الذائقة الفنية الرسمية، في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة، أدى إلى خلق رد فعل شعبي في اتجاه معاكس. رد الفعل ذاك، مثّل نوعاً من مقاومة سياسية مبطنة وذكية ضد ه، لتعذر وجود منافذ سياسية للتعبير عنها. ولذلك، ولدت نزعة قوية تنادي بالعودة إلى الطرب الليبي القديم، ووجدت لها بيئة مناسبة، أدت إلى انتشارها في قطاعات كبيرة من المجتمع، حتى أن الاجهزة الرسمية للنظام وجدت نفسها مضطرة لمسايرتها وإفساح المجال أمامها في وسائل الإعلام الرسمية، تفادياً للاصطدام بعشاقها، وإبداء نوع من تسامح غير معهود، وغير مضرّ سياسياً باستمرارية النظام. الانقسام في الذائقة الفنية في المجتمع جاء تعبيراً عن انقسام سياسي.

أنصار النظام العسكري التفوا حول أغانيهم وشعرائهم وموسيقاهم، والرافضون للنظام فتحوا خزائنهم واستخرجوا ما بداخلها من فن وموسيقى وطرب نشأ وترعرع وانتشر في النظام الملكي السابق. القلب الليبي انشق نصفين. وبدلاً من التكامل بين الاثنين، اتصفت العلاقة بين الشقين بما يشبه القطيعة.

وأدى ذلك إلى أن يكون الفن والطرب أحد أهم الأسلحة في حرب ضروس وطويلة بين النظام معارضيه. وعلى سبيل المثال، حين بدأ المعارضون للنظام في تنظيم أنفسهم في المنافي، والإعلان عن أنفسهم في تنطيمات سياسية، واستطاع بعضهم، نتيجة ما تحصل عليه من دعم خارجي، من امتلاك أجهزة إعلامية، اختاروا اللجوء إلى إذاعة ما كان سائداً من أغانٍ، والحرص على إعادة البريق لفنانين ليبيين أحياء تجاهلهم النظام. وأدى ذلك إلى وقوع أجهزة النظام الإعلامية في ورطة سياسية وفنية.

إذ لم تكن قادرة على تجاهل ما حدث ويحدث فنياً من تغير في الذائقة الفنية شعبياً. ولم يكن سهلاً عليها أو مقبولاً لها بثُّ أغانٍ اشتهرت وانتشرت بفضل إعلام المعارضة، تعبر عن حب الوطن وبنغمة موسيقية هادئة تتسرب إلى القلوب وتستحوذ عليها، وخالية من قرع طبول الحماس السائدة والممقوتة. لكن النظام قام بمناورة سياسية ماكرة تمكن بها من الالتفاف على المعارضة، بأن أوعز إلى أجهزته الرسمية ببث تلك الأغاني والأناشيد.