Atwasat

الانتخابات.. الانتخابات

سالم العوكلي الثلاثاء 12 أكتوبر 2021, 09:22 صباحا
سالم العوكلي

العالم المحيط بالعقدة، أو العُقَد الليبية، الفاعل فيها والمنتظر خارجها، يتفق على أن الحل في الانتخابات في موعدها، وأن هذا اليوم الموعود الذي يوافق ذكرى استقلال ليبيا السبعين هو يوم الفصل، كأنه يوم عودة المسيح أو المهدي المنتظر بمعجزة تقضي على كل الشرور فوق هذه الأرض.

لا شك أن الانتخابات التي تنتج عن ميثاق وطني يُتوافق حوله، وتنبثق عنها السلطات الشرعية تعتبر حتى الآن أنجع وصفة سياسية لمبدأ الحوكمة التي تستمد شرعيتها من الشعب الراشد أو الناخبين، غير أن مظهر الانتخابات أو صناديق الاقتراع الذي تحول إلى شعار في العالم الثالث لا يمت بصلة لشروطه الدستورية المفترضة، ولما يجري على الأرض، وأصبح تعويذة رائجة تتشدق بها النظم الديمقراطية والدكتاتورية على حد سواء كوصفة علاج للدول النامية، أو روشتة (ستاندرد) توصف لمرض لم يشخص جيدا. وعبارة الحل في الانتخابات في مثل هذه الحالة لا تختلف عن عبارات (الإسلام هو الحل)، أو الحل في تطبيق شرع الله، وما يجمع بينها ــ مع الأخذ في الحسبان اختلاف وجهاتها الزمنية ــ كونها جميعا تشكل قفزة في ظلام. في ظلام الماضي أو ظلام المستقبل.

وبعيدا عن هذا الحس النظري التشاؤمي، دعونا نتأمل في التاريخ والجغرافيا والوقائع، ونتفحص تجارب لها خبرة طويلة في (الانتخابات)، وما آلت إليه من مصير جعل منظومات الحكم الشمولي أو الوراثي أو حتى الإقطاعي، تتبجح أمامها بمقولات الحكم الرشيد أو المشروعية بدل الشرعية، وتزهو بكوجيتو االكسل التاريخي "ليس في الإمكان أبدع مما كان".

الانتخابات.. الانتخابات. على مدى عقود كانت تُجرى في لبنان، ومنذ سقوط صدام وهي تجرى في العراق، وفي الصومال وموريتانيا، وفي بورما وفنزويلا وبنغلاديش، وفي أفغانستان طيلة عقدين مضيا، وفي معظم الدول الأفريقية التي مازالت لا يُزاح فيها حاكم جاء عن طريق دستور يضمن تداول السلطة إلا بحرب أهلية، والأمثلة كثيرة. وحتى لا أكون انتقائيا، أو واقعا تحت أغلوطة (رجل القش)، فلنتأمل انتخابات أنجح دول دول الربيع العربي التي من المفترض أن تكون تحاشت المصير غير الملائم بتسمية الربيع: تونس التي قُدمت كتجربة نجاح مبهرة في هذا الربيع، والتي نالت مؤسساتها المدنية جوائز نوبل، توقف الآن مسارها الديمقراطي كي تراجع الروشتة التي قدمت لها وطبيعة المرض الذي تعاني منه حقيقة، ويضطر الرئيس المدني والفقيه الدستوري لأن يجمد كل نتاجات المرحلة الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة لينفرد بالسلطة بما يشبه قانون طوارئ، وعبر تفعيل مادة دستورية جانحة عن نظام التمكين في الدستور لحزب واحد، كي يعيد ترميم الديمراطية بما يتناسب وطبيعة أزمات الدولة وروحها.

قد يقول البعض أن تشوه ديمقراطيات بعض الدول كان بسبب الفقر وعدم وجود مصادر للدخل، أو أن الاقتصاد لم يناغم التطور السياسي، وأن ليبيا دولة غنية بالثروات واقتصادها قابل للإصلاح بمجرد أن تتوحد مؤسساتها وبمجرد أن تنتخب، وأن وضعها الاقتصادي في انتظار تطور مسارها السياسي كي يتناغما كقصبتي مزمار، ويبدو أن ظاهر هذا الكلام صحيح، لكن فنزويلا والعراق ونيجيريا، على سبيل المثال، دول تتمتع بثروات مثل ليبيا أو أضخم، فأين المشكلة؟ ولماذا يصر العالم على أن الحل في الانتخابات بينما يدرك أن في ما يسميه العالم الثالث لم تؤدِ الانتخابات سوى إلى كوارث لا تحصى؟، ولماذا ارتبطت في هذا الجزء من العالم الديمقراطية بالفساد؟. وحتى تركيا التي مشت فترة بقوة الدفع الذاتي لنظامها العلماني السابق، والتي كانت تُقدم كنموذج يُحتذى في المنطقة، انتكس مشروعها الديمقراطي، والآن تتبجح بالسلطة المنتخبة ديمقراطيا بينما في سجونها عشرات الألوف من السجناء السياسيين؛ من النخب أو من يحسبون على الدولة العميقة، واقتصادها آخذ في الانحدار، وحاكمها الأوحد الذي عدل الدستور لانفراده بالحكم يظهر كأي طاغية هزلي من فلكلور هذه المنطقة الزاخر.

الانتخابات مهمة، ولا سبيل لنيل الشرعية سواها، لكن لماذا دائما تخذل معظم المجتمعات التي بقدر ما تنتخب دوريا تتراجع أوضاعها للخلف، ويزداد فيها الفساد وعدد الفقراء، وتُضيق فيها الحريات؟. وعلينا أن نطرح هذا السؤال بقوة كي لا نستسلم لوهم أن الانتخابات هي الحل الوحيد، وعلينا أن نطرح أسئلة كثيرة حيال هذا المأزق.

هل، مثلا، ترتبط الديمقراطية بالفساد في مجتمعات فهمت الحريات، وحرية الاقتصاد خصوصا بشكل خاطئ؟ هل الديمقراطية يمكنها ان تَبني دولة أم هي فائض حضاري عن دولة قائمة فعلا؟ هل العلمانية هي الركيزة الأساسية للديمقراطية لكي تصبح الانتخابات حلا جذريا لحسم مسألة السلطات؟، أم أن ضعف منظمات المجتمع المدني التي يفترض أن تحمي العقد الاجتماعي وراء هذه الخيبات؟.

هل تسرعنا، أو كما يقال أحرقنا المراحل؟ خالصين إلى حجة من يقولون أن الديمقراطيات الناجحة في أوروبا احتاجت إلى وقت طويل كي تختمر؟ وأنها مرت بتغيرات كثيرة ومفصلية كي تجد طريقها، مثل الثورة الصناعية وتشكل الطبقة الوسطى والبرجوازية الوطنية، إلى غيرها من التبريرات التي لا تعوزها الوجاهة؟ هل كان للفلسفة دور في تهيئة قاعدة اجتماعية قابلة لهذا التحول البنيوي في الوعي السياسي، وهي التي ناضلت في الغرب في وجه الخرافة واللاهوت المهيمن دفاعا عن الأرض والحقوق الإنسانية التي استلهمتها القيم الجمهورية؟.

في كتابه (النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا)، يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان ما مفاده، أن العقل الأوربي تعرض لثلاث صدمات مقلقة لم يتعرض لها العقل الشرقي أو الإسلامي خصوصا، وهذه الصدمات تمثلت في اكتشافات: كوبرنيكوس وفرويد وداروين، وأن كل ما حدث فيما بعد كان نتيجة هذه النقلات الجديدة التي أزاحت الوعي الإنساني إلى ضفة أخرى للمعرفة والتفكير ورؤية العالم. لكنه يستطرد ــ ربما ليطمئننا ــ أن الوقت لم يفت، ويتحدث في الثمانينيات عن الصدمة الكونية المقبلة التي ستطال العالم برمته وهي ثورة المعلومات، ونحن ضمنها وفي قلبها حتى ولو كنا مستهلكين، وتفعل فعلها في حياتنا اليومية وفي تصوراتنا للعالم ولذواتنا، ومن ثم في مصيرنا القادم.

وهي ثورة بقدر ما قوضت نظم استبدادية متخشبة، بدأت الآن تتصادم مع أعتى الديمقراطيات، ولعل ما تتعرض له المنصات الاجتماعية، والفيس بوك خصوصا، من نقد ومحاكمات وتهديدات بالتضييق عليها من قبل برلمانات أمريكية وأوربية يؤكد مأزق العالم في تعامله مع هذا التحول الجذري الجديد الذي تسبب في سقوط أنظمة عاتية في الشرق الأوسط، وفي زحزحة عروش أخرى حاولت ان تنحني لهذه العاصفة وتعترف أن لها شعوبا مزاجها يختلف عن مزاج السلطة. كان أحد المشاهد التي لا تُنسى رفرفة علم الفيس بوك مع العلم المصري في أعلى سارية في ميدان التحرير إبان ثورة يناير، وسبق ان كتبت عن هذا المشهد كمفصل في التاريخ، وكتأويل لحدس شايغان بكوننا نتعرض لصدمة كونية سيكون ما بعدها غير ما قبلها.

هذه المنصات التي تعكر صفو الصفوة في العالم والمقوضة لسلطة البيروقراطية، تمثل شكلا جديد لمفهوم الصحافة، ومختلف عن الصحافة التقليدية التي تتحكم فيها السلطات السياسية في الدول الشمولية، وتتحكم فيها اللوبيات الاقتصادية المختلفة في النظم الديمقراطية، ما جعلها صعبة الهضم لنظم تعودت على احتكار الخبر والمعلومة والأسرار وإدارتها.

من جانب آخر، إذا تجاوزنا حجة المتوجسين من عدوى الديمقراطية بكون لكل مجتمع خصائصه المكانية، فعلينا أن نسلم بالخصائص الزمنية للتجمع البشري فوق هذه الأرض، وباعتبار الديمقراطيات السائدة التي مضى عليها أكثر من قرن في المتوسط أصبحت تعاني أزماتها في هذا الزمن الذي ينتج جهاز علاقات إنسانية مختلفا، وهذا الواقع الذي يسمى ا(فتراضيا) رغم أنه لب الواقع تولد فيه أجيال غير معنية باحتجاجات الجيل الهرم حيال هذه الفضاءات، بما فيها ذرائعهم عن سرية الملعومات والخصوصية الفردية والحض على الكراهية وغيرها، رغم أن القرون السابقة كانت مزدهرة بهذه الانتهاكات وبالحروب والكراهية قبل حتى ان يكتشف الراديو أوجهاز اللاسلكي، وربما لأنهم لم يقرءوا كتابات ماكس فيبر بداية القرن العشرين عن كابوس بقرطة الحياة الاجتماعية التي رأى "أنها ستستمر بلا هوادة مهما كان أسلوب ملكية وسائل الإنتاج"، ولم يقرؤوا روايات كافكا عن كوابيس انتهاك الحياة الخاصة وعالم شخصياته في القرن التاسع عشر المجتاح من المكاتب وجيش من الموظفين وسيل من الملفات "ينتهك بفظاظة الرمز المقدس للرعوية المناهضة للبيروقراطية، فارضا عليها معنى مناقضا تماما: معنى الانتصار الشامل للبقرطة الكاملة.". وهو العالم الذي تسيطر عليه الآن، إضافة للبقرطة، الرقمنة الكاملة.

وفي هذا السياق الذي تتهشم فيه مفاهيم كثيرة للسلط التقليدية، تصبح الدعوة إلى الانتخابات ـ التي يصفها أحمد الفيتوري بقبعة الساحر ـ كحل وحيد؛ شبيهة بترتيلة معبد، أو بعبارات المواساة في المآتم التي نقولها مع يقيننا أنها لن تغير من الأمر شيئا، لأننا مازلنا نتعامل معها كحل وليس كفائض حضاري عن حلول جذرية لأزمات أجتماعية واقتصادية وسياسية تطحن تلقائيا كل نزوع إلى الانتماء لنادي العالم الديمقراطي. فالانتخابات مجرد إجراء تقني لا يغير من واقع الحال شيئا إذا لم يكن ملحقا بالنزاهة وحرية الاختيار والأهم من ذلك قبول النتائج بروح ديمقراطية تجعل المرشح الخاسر يتصل بالفائز ليهنئه، خصوصا في الانتخابات الرئاسية التي مازالت تتحول في الدول المقلدة إلى نوع من طبول الحرب الأهلية في كثير من التجارب السابق ذكرها.