Atwasat

حلحلة !!

صالح الحاراتي الإثنين 11 أكتوبر 2021, 10:37 صباحا
صالح الحاراتي

فى الزمن الانتقالى الفوضوى المرتبك الذى نعيشه، مرت بنا مفردات غير شائعة وغير مألوفة استخدمت لتوصيف الواقع المعاش، وأظن، وليس كل الظن إثما، أن التمعن فيها أمر له أهميته حتى نتفهم المقصد والمعنى من ناحية، وضبط الألفاظ والمصطلحات من ناحية أخرى، فهناك مفردات لها رنين جذاب فى لغة السياسة وجب تأملها ومحاولة تحديد معناها، فربما كانت فى حقيقتها لفظا عابرا قصد به التعمية والغموض والإثارة دونما دلالة حقيقية أو نتيجة على أرض الواقع.

وقد لفتت انتباهى مفردات بعينها أظن أنها لم تكن متداولة ومنتشرة رغم حقيقة معناها ومغزاها، أذكر منها مفردة "حلحلة".

بمرور عابر على قاموس اللغة نجد أن حلحَلَة: هي مصدر الفعل حَلحَلَ. حلحلَ يحلحل، حَلْحَلَةً، فهو مُحَلْحِل، والمفعول مُحَلْحَل. حَلْحَلَ الشيءَ: أي حرَّكه وأزالَه عن موضعِه. أما اصطلاحا فأظن أن هناك مسارين للمعنى، فقد تكون الحلحة إيجابية بمعنى الحركة إلى موقع أفضل لحل المشاكل وقد تكون حلحلة سلبية وذلك يشابه حلحلة تمثال الغزالة عن موضعه واختفاءه للأبد وكذلك مصير جامع الشعاب بطرابلس وأيضا حلحلة سكان المقابر والعبث برفاتهم.

كما لا تفوتنا الإشارة إلى أنها قد تكون بمعنى: حلحل القومَ أي أزالهم عن منازلهم وهجرهم، كما حدث فى عدة مناطق فى بلادنا .

الحلحلة "فى صورتها السلبية" قد تذكرنا بتلك الفئة من البشر الذين اعتادوا الكذب، والذين لم نسمع منهم على الإطلاق في يوم من الأيام أنهم اتخذوا موقفا لصالح الوطن أو دافعوا عن قضايا وهموم الناس.. أو ساهموا في أي "حلحلة إيجابية" باتجاه بناء الدولة وتوحيد المؤسسات.

يقول مسؤول تعبيرا عن تفاعله مع الحالة الراهنة بالقول إنه يسعى إلى حلحلة المختنقات، ويقول مسؤول آخر أنه يعمل على حلحلة الصعوبات، ويقول ثالث أن هدفه هو حلحلة الأزمة وحلحلة الجمود السياسي، إلى آخر تلك العناوين الفضفاضة التى لم تحلحل او تجد حلا لأي مشكلة رغم أن هناك ملاحظة لفتت نظري تتعلق بـ "حلحلة" حيث لو تم تفكيك حروف الكلمة لوجدنا بداخلها لفظة "حل" مكرر!

فى تقديرى ولكي ننجح في حلحلة مشاكلنا والمضي في طريق بناء الدولة المدنية المأمولة وتجاوز الكثير من العقبات، يجب أن يتوجه جهدنا إلى "حلحلة" الكثير من الركام المعرفي الموروث الذي يعيق حرية التفكير وما يتبعه من حرية الرأي وحلحلة وإزالة كل العوائق التى تقف أمام التفاعل الحر مع الحياة، أي "تغيير طرق التفكير وإجراء تحليل نقدي وعلمي للتراث، وأن نتعامل معه بوصفه أمرا من حقنا أن نفكر ونجتهد فيه كأفراد ولا نتركه على حاله، ويحق لكل فرد أن يتعامل حتى مع الفهم الدينى السائد فى موروثنا على المستوى الشخصي، ولا نفوض أمره لرجال الدين"المصارعين على امتلاك الحقيقة" كي يحددوه لنا؟ فتجديد فهمنا للدين ضرورة وليس ترفا، وليس ذلك محاولة للتخلي عن الدين بدعوى الحداثة والتجديد، ولكن لأجل بعث روح العصر وتجاوز الجمود والتشدد والانغلاق وإلى "امتلاك رؤية عصرية جديدة للنص المقدس.. ورغم وجود حساسية شديدة يبديها رجل الدين والمؤسسات الدينية، تجاه كل حديث أو دعوة للتجديد أو التحديث والتى أظنها ردة فعل غير واعية على الأسئلة والتحديات التي يطرحها عصرنا الحالي، فلابد من ضرورة إعادة توضيح علاقة الدين بالحرية والفردية والاختيارات الشخصية، فما عادت الإجابات التقليدية كافية أومقنعة، فالأجيال الناشئة أصبحت أكثر انفتاحا على الأفكار والطرق التي تساعدهم على التطور الذاتي وشبكة الإنترنت فتحت الأبواب المغلقة للمعرفة والمعلومات، وإذا استمر جمود الخطاب الديني التقليدي الذى انحصر اهتمامه بالمظاهر والشكليات، أو تحول إلى منهج العنف والقتل بيد الجماعات المتطرفة، فقد نشهد موجة إلحاد تقصي الدين برمته.

ولعل الأهم فى حديث "الحلحلة هذا" هو التأكيد على فكرة أن يكون الدين خيارا شخصيا وعلاقة إيمانية خالصة بين الإنسان وربه. وهو أمر حدث ويحدث في كل المجتمعات التى حققت التقدم وتقود البشرية فى مسيرة النمو والازدهار.

غن تأويل النص عندنا هو تأويل عُنفي لأنه يستند في قراءته إلى قراءة السلف دونَ استحضار المتغير التاريخي... رغم أن إنسان اليوم مؤهل لقراءة ذلك النص قراءة أكثر عمقا بحكم تطور العلوم .

إن الذين لا يقبلون انزياحاً عن الماضي، ولا زحزحة له بل يحملونه كما هو من القرون السابقة، ويعيشون في عباءته واجترار منتجاته، ويسفهون كل خروج عنه، وينتهجون عدم إعمال العقل في تحليل أحداثه، للإفادة مما يناسب عصرنا وطرح ما لا يناسبه، هو إغلاق لباب الحرية في البحث والتفكير.

لقد علمتنا مختلف تجارب الحياة وجوب السعي لعدم سيطرة الفكر الأحادي والهويات المنغلقة التي تكره الحريات الفردية ولا تنتج سوى الحروب والكوارث واقتتال البشر باسم الدين.