Atwasat

3 - الواشون وعصمتهن

محمد عقيلة العمامي الإثنين 11 أكتوبر 2021, 10:28 صباحا
محمد عقيلة العمامي

«في مايو يعود طائر العندليب من هجرته السنوية من صحراء جنوب أفريقيا، يعبر مصر، ينحرف نحو غرب المتوسط ويحط على جبل طارق. رحلته الطويلة هذه تصاحبها سيمفونية مذهله تعزفها ذكور العنادل. ليست الذكور كلها موهوبة في الغناء؛ علماء الطيور يؤكدون أن الجيد منها هو فقط من سمع في صغره تغريداً جيداً من كباره! من لم يحظ في صغره بمعلم يجيد الغناء، لا يستطيع أبداً مجاراة الجيدين من المغردين في السرب، هكذا يقول العلماء. ويقولون، أيضاً، أن هذه العصافير تغني بصوت أقوى في المدن أكثر منه في الخلاء حتى تتغلب على ضجيج المدن! إنها لا تحب الضجيج.

عندما تعود هذه العنادل من أفريقيا في هذا الشهر، تمر ليلاً من فوق الشقة 63 بالدورِ المُتطلع إلى السماء، فأستمتع بهذه السيمفونية العذبة من ذكور العنادل التي وهبها الله من علمها في صغرها غاية وجودها! »

مع انبلاج الفجر يتباعد تغريدها وتتلون حافة الأفق بالشروق. هذه الليلة كنت قد عدت من صلاة فجر ليلة من ليالي أواخر شهر رمضان. رمضان حقيقي، يا أصدقائي، وليس رمضان الجاهلية. كان صوت المُقرئ نقياً وجميلاً، أُخذت به وبالآية الكريمة التي لم أنتبه إلى حكمتها من قبل، ولو أنني تفكرتُ فيها لما تألمتُ من تلك المشاحنات المؤلمة التي تخنقني عندما أختلي بنفسي من بعد جدل مقيت وشجار مع من أحب: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. الجنة إذن، لا غل فيها ولا كراهية، أي أن الحياة الخالية من الغل والحقد تجاه مخلوقات الله كافة هي الجنة.

وتذكرت بطرس عندما سأل السيد المسيح: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» أجابه يَسُوعُ: «لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ».

وأنا، يا أصدقائي مسامح بطبعي، حتى لمن لا يستحقونه، فما بالك برفاق، ورفيقات طوقت أكتافهم بذراعي، وتبسمت لهم وهمست لهم بود، مرات ومرات: «إنهم قطعة من فؤادي». سوف أحكى لكم عن هؤلاء الرفاق، وما عليكم إلا أن تتذكروا «لعبة الكلمات المتقاطعة» وستشاهدون شريط الذكريات.

قد تتعجبون يا أصدقائي، من اعترافي هذا لكم، فلعلكم مثلي، تعرفون أننا شعب لا يعترف فيه الذكر بحب من يحب، بل يتجنب حتى ذكر اسمه أمام الناس، فما بالك عندما يضعها في مصاف روح روحه. هل تساءلتم، يوماً ما، لماذا كان لوقت قريب، يسمى مجتمعنا الذكوري زوجاتهم: (الواشون)؛ وأنت تعلم أن اسم المفرد منها هو «واشٍ»، وهو من الوِشَايَة يعني النَّمِيمَةُ، فالواشٍي هو النمام أو قد نعتبره (بصاصا). (الواشون) جاءت من سؤال الغرباء لأطفال نجوع البدو عن أسماء كبارهم وشيوخهم، ليعرفوا كيف ينالون ودهم وترحيبهم عندما يصلون إلى النجع، فيبدون وكأنهم يعرفونهم وبالتالي يستضيفونهم ويكرمونهم.

وهكذا صار الأطفال (واشون) ومن هنا أطلق الليبيون على عائلاتهم (الواشون)، يعني أن نصفهم الآخر، إن لم نقل نسائهم اللواتي يستكينون إليهن اختصروه في عيالهن، لأنه لا ينبغي أن تذكر أسماء حريمهم، تفادياً لإيحاءات لا داعي لها. لم يكتفوا بإلصاق هذا النعت المعيب بزوجاتهم فقط؛ بل بخلوا على زوجاتهم حتى بصفة «أم العيال»! ثم تمادوا، وأضافوا لهن مصطلحات أخرى مثل (صاحبي) أو (ولد عمي)، في محاولة لحرمانهن من أنوثتهن غير مدركين أن الأنوثة هي غاية ما تفخر به الأنثى، غير مدركين أن حرمان الإنسان من طبيعته، أو مما خلق من أجله، لا ينتج إلا نكداً. فالذكر لا يكون سوياً إلا بذكوريته والأنثى إلا بأنوثتها.

عندما عرفت أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية رفضت القيام بمراسيمها الدينية في دفن الروائية الفرنسية الشهيرة (غابرييل كوليت)، التي تُوفيت في باريس يوم 3 أغسطس 1954 لأنها مطلقة، والطلاق عند هذه الكنيسة محرم تماماً. ومع ذلك قامت فرنسا بتكريمها، ونظمت لها جنازة رسمية فكانت أول امرأة فرنسية تنال هذا التكريم ودُفنت في مقبرة مشهورة في باريس.

وعندما قرأت قصتها، خطر على بالي (الواشون)! والقهر المسلط على الإناث، وبؤسهن في مجتمعنا الذكوري: تقول قصتها أنها لما بلغت العشرين عاماً، التقت بالكاتب والناقد (هنري غوتييه فيلار) فتزوجا ولكن بعد 13 عاماً انفصلا بالطلاق بسبب خلافات عن حقوقها عن رواياتها التي نالت شهرة كبيرة. وفي العام 1912، أي بعد 6 أعوام تزوجت من (هنري دي جوفين) رئيس تحرير صحيفة (لوماتان)، في تلك الفترة كتبت عدداً من أعمالها مثل رواية (شيري) ورواية (البذور الناضجة) ولكن حياتها الزوجية انتهت بالطلاق سنة 1934.

وأخيراً تزوجت من الكاتب (موريس جوديكات) فكان زواجاً سعيداً ناجحاً، كتبت خلاله أفضل وأنضج أعمالها، واختيرت عضواً في الأكاديمية الملكية البلجيكية 1935، والأكاديمية الفرنسية (غونكور أكاديمي) العام 1945، ونالت عدداً من أوسمة الشرف، التي تمنح للنساء. لقد فسر المحللون أن ذلك كله تحقق بسبب سعادتها الزوجية.

هذه الروائية لم توفق في زواجين على الرغم من أن للزوجين نفس اهتماماتها، فهما يتعيشان من الكلمة إن لم نقل إنهما مبدعان. ولكنها سعدت كثيراً في زواجها الثالث، وما إن قرأت رأياً من زوجها الثالث عن العلاقات الزوجية، حتى اكتشفت سر سعادتها، فهو يقول: «.. ما إن يرتبط الذكر بنصفه الآخر حتى يبدأ، غالباً، بقرار من عقله الباطن، في تشجيعها وأحياناً بتوجيهها باللين أو بدونه! لترضيه بسلوك تتعلمه منه، ويصبح هذا السلوك طبيعتها الثانية، إنه يعتقد أن ذلك يسهل السيطرة عليها وتظل تحت طوعه، وهي في الغالب تنفذه، لأنها بطبيعة الأنثى ترى أنه يربطها به.

ولكن الرجل في الواقع أفقد أنثاه شخصيتها، أو بمعنى آخر أنوثتها. وعندما ينجح الزوج أو الذكر في تحقيق هدفه، ينتبه الذكر أنه لا يرى سوى نسخة ثانية مشوهة منه، تُسمعه صدى أجوف لصوته.. وهذا ما جعل، بعض ذكورنا في ليبيا يسمون زوجاتهم «ولد عمي».

إن انتباه الكاتب (موريس جوديكات) لهذه الحقيقة هو سبب نجاح زواج الروائية (كوليت) الثالث، الذي استمر بسعادة حتى بعدما أقعدها شلل جعل من نافذة بيتها المطلة على الشارع هي الدنيا كلها.

المجتمعات الغربية التي نراها الآن ليست «ذكورية»، كانت في الواقع ذكورية جداً فلم تتخلص تماماً من «حزام العفة» على سبيل المثال، إلاّ في بداية القرن السابع عشر، والروائية (كوليت) عاشت في نصفه الثاني! وقدمت لنا الدليل على أنه بمقدور الذكر أن يرافق أنثى مثلما يتمنى، أو يرافق «ابن عمه».. كله في يد الذكر لأن مجتمعات الإنسانية من بدايتها ذكورية حتى ولو حكمتهم أنثى!

والكاتب الفيلسوف «رولان بارت» الذي عاش معنا حتي سنة 1981، وظل طوال حياته نموذجاً للفيلسوف الفرنسي، الذي غير الكثير من المفاهيم، ولعلني لا أقول سراً أن معرفتي له، كانت بسبب تناول الكثير من كتابنا العرب لمقالاته المتنوعة، وبمقدور المهتم أن يطلع على كتابه «أسطوريات – أساطير من الحياة اليومية» وترجمة الدكتور قاسم المقداد، ونشر سنة 2012 وسيرى حجم تأثيره في المجتمع الغربي.

في مقالته «روايات وأطفال» يقول: «إن الكتابة سلوك مجيد، لكنه جسور. الكاتب فنان نعترف له ببعض الحق في البوهيمية، وبما أنه مكلف بتقديم أسباب إحساسه الجيد إلى المجتمع، فعليه أن يدفع ثمناً للخدمات التي يقدمها إليه. فنعترف له ضمناً بأن يعيش جزءاً من حياته بشكل خاص. لكن حذار: فعلى النساء ألا يعتقدن بأنهن قادرات على الاستفادة من هذا التحالف دون أن يخضعن لواقع (نظام) الأنوثة الأبدي. فالنساء على الأرض مخلوقات لوضع الأطفال للرجال، وليكتبن ما شئن، وليقمن بتزيين شروط حياتهن، لكن عليهن ألا يخرجن من هذه الشروط أبداً: وينبغي على مصيرهن -التوراتي- ألاّ يتكدر بتلك الترقية الممنوحة لهن وعليهن أن يدفعن من أمومتهن ضريبة لتلك البوهيمية المرتبطة بشكل طبيعي بحياة الكاتب». والخلاصة لما أوردته من هذا المقال أن المجتمعات الغربية، لا تزال في الواقع ذكورية، فما بالك في مجتمع ينص عقد الزواج فيه على أن الذكر «يملك» عصمة زوجته، بمعنى أنه لا حياة مستقلة لها، بمجرد أن توافق على قسيمة الزواج.

وأنا رسميا! حَكمتُ، وأيضاً، حُكمتُ من أنثيين، من قبل، وها هي الثالثة، التي فهمت منها ما لم أفهمه من قبل، فإن أردتم أن تعرفوا «أصل الحكاية إيه؟» مثلما تقول «الحاجة وافية»، أنصتوا إلى «أنغامها» من البداية، لأن «سي عقيلة» مثلما قلت لك كان مُغرداً جيداً، أكرمني به الله، فأنصت إليه طوال ثلاثين عاماً قبل أن يرحل عنا، ولا تزال ترانيمه يتردد صداها في صحوي ومنامي.