Atwasat

ديريدا: الكتابة، اليهودية، الصهيونية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 10 أكتوبر 2021, 09:38 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لا يجادل أحد في تصدر جاك ديريدا Jacques Derrida الحراك الفكري مابعدالحداثي في فرنسا والعالم، من خلال نظريته المسماة "التفكيكية deconstruction"، التي هي نظرية نقدية في مجالي الأدب والفلسفة. وفي هذا المقال القصير نتطرق إلى ثلاثة عناصر رئيسية خفية، إلى درجة كبيرة، في فكر ديريدا، هي الكتابة واليهودية والصهيونية، وهي عناصر متعالقة، معتمدين، بشكل يكاد يكون كليا، على كتاب كريستوفر وايز1 Christopher Wise، ديريدا: أفريقيا والشرق الأوسط Derrida, Africa, and The Middle East" وهو، في نظري، كتاب رفيع الأهمية بالنسبة إلى الملتزمين بالرؤية النقدية الموضوعية المعادين، ضرورة، للعنصرية والاستعمار، وفي صدارتهم، في هذا السياق، المثقفون العرب، ذلك أنه وايز يكشف عن (كي لا أقول: يفضح) البعد الديني اليهودي الدفين، الذي لا تتبدى منه سوى أعراض جانبية، انحياز دريدا الدفين لليهودية والصهيونية، وبالتالي لإسرائيل، التي هي دولة دينية عنصرية إمبريالية.

* الكتابة
ينتقد دريدا الفلسفة الغربية، منذ الفلسفة اليونانية، لتمركزها حول الصوت logocentrism، أي حول الكلام المنطوق وأسبيقيته على الكتابة وسموه عليها، أو ميتافيزيقا الحضور metaphysics of presence. فيعارض ذلك محاججا بأن الكتابة أسبق من الكلام وإن لم تكن أسمى قدرا، مقترحا ما يسميه الكتابة الأصلية أو النموذجية arche-writing، وهي كتابة سابقة على الكلام ولا يحددها نظام لغوي، وبصفتها هذه فهي أساس كل كتابة ذات نظام لغوي، كما أن الكلام ذاته هو نوع من الكتابة.

والواقع أن هذا مبدأ ميتافيزيقي ينحدر من التوراة التي يعتقد اليهود أنها كتبت قبل الخلق.

* اليهودية
معروف أن دريدا ينتمي إلى أسرة يهودية عربية جزائرية من اليهود السفرديم2، الذين هم يهود شرقيون. وهو لا يخفي هذا، إذ يصف نفسه بأنه "أسود قليلا ويهودي عربي جلي … alittle black and very Arab Jew" وهو لا يصف نفسه بأنه "عربي يهودي Jewish- Arab" ذلك أن "عربي" في جملة "... يهودي عربي" تأتي صفة لليهودي، على حين أن "يهودي" في جملة "عربي- يهودي" تأتي صفة للعربي، وهو ما لا يقره دريدا. فرغم أنه عربي ويهودي في نفس الوقت، إلا أن علامة العربي تكون خاضعة في ثنائية يهودي – عربي Arab-Jew ، لليهودي.

ذلك أن وصف شخص بأنه "عربي يهودي" يعني أن أباه يهودي وأمه غير يهودية، والانتساب إلى اليهودية يكتسب في خط الأم. فاليهودية دين أمومي.

ومن الضروري أن نؤكد هنا على أننا لا نعترض على تمسك أي إنسان بمقتضيات دينه، مهما كان دينه، ما لم يتنافَ مع المباديء العامة لحقوق الإنسان. ولكن ملاحظتنا تتعلق بأن الفهم السائد لفكر دريدا أنه ينطلق، مثل أي طرح فلسفي، من مباديء ومقدمات تقع خارج أي دين، بما في ذلك دين أسرته والقِسم اليهودي الذي تتحدر منه هذه الأسرة. يرى بعض نقاد ديريدا أن خطابه يحمل "نغمة شبه- دينية quasi-religious tone"، وليست "شبه- إلحادية quasi- atheistic".

* الصهيونية
في كتابه "أطياف ماركس Marx’s specters" لا يأتي دريدا على إيراد لفظة "الصهيونية" مطلقا، مفضلا عليها ألفاظا ألطف من مثل "اليهودية Judaism" و "الفلسفة اليهودية Jewish
Philosophy"، وهذا يتضمن أن مثل هذه التلطيفات تنضوي بالكامل تحت الصهيونية. فالخطاب الصهيوني Zionist discourse في "أطياف ماركس"، الذي لم توجد الصهيونية في عهده، يندمج في "الخطاب اليهودي Jewish discourse" الذي يشير إلى الهاجس اليهودي بأرض الميعاد. إذ إن العنف الدائر في الشرق الأوسط، بالنسبة إلى دريدا، ليس نضالا دنيويا secular من أجل الأرض، وإنما هو نبوءة Apocalypse من الأخرويات المسيحانية Messianic eschatologies انفلت عقالها.

أبعد من ذلك، يصف ديريدا حروب الشرق الأوسط بأنها صراع من أجل ضم القدس.

وهذا الطرح مضلل ويشوه الواقع التاريخي، حيث تعني لفظة "الضم" تملك الشخص شيئا لنفسه والانتفاع به، عادة بدون إذن أو استحقاق قانوني، وهو وصف ينطبق فقط على دولة إسرائيل، وليس على العرب الفلسطينيين. كما أنه برى أن كل التوجهات القومية nationalismsتستند إلى سرديات أرض الميعاد. فحسب دريدا، ما من قومية أو طرح قومي ليس دينيا أو أسطوريا، بل و "باطني mystical" بالمعنى الواسع.

فكل ظاهرة آيديولوجية تتميز بدرجة من الدينية. وطرح كهذا، إذ يقحم زعما دينيا فريدا في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على الأرض، يقود إلى اعتبار أن ما يفعله الصهاينة تفعله جميع أمم العالم، في ما عدا أنهم، في ما يبدو، أكثر نزاهة بخصوص حقوقهم في الأرض الموروثة their territorial blood rights، ما يعني، وفق هذه التركيبة، أن جميع القوميين، بمن في ذلك الفلسطينيون، يتبعون صهيونيات Zionisms سرية.

1- كريستوفر وايز (م 1961)، منظر ثقافي وناقد أدبي ومترجم. له عدة كتب ودرس في عدة جامعات من بينها جامعة عمَّان. وأصوله، مثل ديريدا، من اليهود السفرديم. وهذا يمنح كتابه الذي اعتمدنا عليه هنا قيمة أخلاقية إضافية.

2- اليهود السفرديم أطلق في الأصل على اليهود النازحيم من إسبانيا والبرتغال جراء أعمال الاضطهاد الديني في أوروبا العصور الوسطى، ثم اتسع فصار يشمل يهود غرب آسيا وشمال أفريقيا.