Atwasat

جزيرة دوران المدار

جمعة بوكليب الخميس 07 أكتوبر 2021, 10:00 صباحا
جمعة بوكليب

لكل مقالة قصة، أو حكاية. وهذه المقالة، بالتأكيد، لا تختلف عن غيرها، إلاّ في خصوصية صغيرة جداً، وهي أنها ولدت في جزيرة دوران، في مدينة طرابلس، يطلق عليها الطرابلسيون اسم جزيرة دوران المدار، وحسب علمي، تقع في الجزء الشرقي منها. وسبب التسمية أنها قريبة من مقر شركة الاتصالات المسماة المدار. وما حدث هو أنني خلال زيارتي الحالية للمدينة، في الأيام القليلة الماضية، تلقيت، ذات مسا، دعوة كريمة من ابن شقيقتي للتنزه قليلاً على شاطيء البحر، واحتساء فنجان قهوة. انطلقت بنا السيارة من مقر إقامتنا في تقسيم سكني معروف يسمى "حوازة البطاطا" في طريقنا إلى وسط المدينة. يقول العارفون إن "حوازة البطاطا" كانت مزرعة كبيرة لزراعة البطاطا، كان يملكها رجل أعمال ليبي معروف يسمى بن دخيل، حولها إلى تقسيم سكني في الستينيات من القرن الماضي، وهي اليوم من أكثر أحياء المدينة كثافة سكنية.

بعد دقائق قليلة، وجدتني، ومن دون مبالغة، خائضاً في أوحال أسوأ مستنقع - اختناق مروري، شاهدته في كل حياتي، حول جزيرة دوران المدار. المشكلة أنه لا توجد مشكلة!! وكل ما حدث، وما زال يحدث، أن سائقي السيارات - لا سامحهم الله - ركبهم عناد شيطان أكفر من إبليس، في مناكفة بعضهم البعض. ولو حكموا العقل والمصلحة، وتزودوا بقليل من الصبر، لما وقعت الواقعة. كانت السيارات القادمة من مختلف الاتجاهات تتقدم بطيئاً نحو جزيرة الدوران، وتتزاحم متلاقية وكأنها كباش تتأهب للنطاح. زعيق الأبواق، وتلوث الجو بعوادم السيارات رفع من درجة حرارة توتري إلى نقطة حرجة، خاصة حين تمكنا، بعد أكثر من نصف ساعة من التداعك والتدافع والسب والشتم، إلى الوصول إلى وسط الاختناق. فكرت أن أفتح الباب وأغادر السيارة، لكن استحال ذلك، بسبب شدة الازدحام، وخطورته. ولم أجد أمامي سوى لعن اللحظة التي وافقت فيها على مغادرة مقر إقامتي، وقبول الدعوة. ولو كانت لي سابق معرفة، ولو ضئيلة، بطبيعة ما سألاقيه في تلك البقعة لما غادرت مطلقا.

في اللغة، مدار مفرد، تعني دار/ دار بـ/ دار على: موضع الدوران "وضع القمر الصناعيّ في مداره" ، مدار الأمر / مدار الكلام : ما يجري عليه غالبًا، مدار الاهتمام: موضع الأهمية. واسم زمان من دارَ/ دارَ بـ/ دارَ على ، على مدار الأسبوع / على مدار الشّهر / على مدار العام: من بدايته إلى نهايته، دون انقطاع. ( معجم اللغة العربية المعاصرة.)

وجزر الدوران، حسبما قرأت في موسوعة ويكبييديا (الموسوعة الحرة) على الانترنت، اختراع بريطاني في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وجد بغرض تسهيل حركة مرور السيارات القادمة من مختلف الاتجاهات. ويطلق عليها اسماء مختلفة. في ليبيا والصين تسمى جزيرة دوران. وفي العراق يطلقون عليها اسم الفلكة. وفي مصر يسمونها الميدان، أما في بلدان الغرب العربي فيطلقون عليها اسم فرنسي " الروانبون". ومما قرأت واستغربته أن الولايات المتحدة لم تعرف جزر الدوران المروري إلا في وقت متأخر. وعلى المستوى الشخصي، فإن أقدم جزيرة دوران عرفتها في طرابلس كانت في ميدان القادسية حالياً، وفي السابق كان يطلق عليه اسم ميدان الوسام الذهبي ( ميداليا دي أورو" باللغة الإيطالية.) وأخرى كانت في ميدان الغزالة، حول نافورة الحسناء والغزالة، قبل أن يتم خطفهما في ليلة بلا قمر، من قبل حماة الفضيلة. وثالثة في جنّة العريف.

الاختناق في جزيرة دوران المدار، وما سببه لي من توتر ونكد وألم وأسف، جزء من المعاناة اليومية المرورية في طرابلس وغيرها من المدن الليبية. ويقيناً أن العديد من المدن الأخرى في مختلف بلدان العالم، خاصة من دول العالم الثالث تعاني من نفس الأزمة. وذكرني، بعد نجاتنا، وخروجنا سالمين من براثنه، بالحالة السياسية الليبية، وفي غيرها من بلدان الربيع العربي على وجه الخصوص، وفي غيرها في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج عموماً. والسبب في ذلك الصراع والاقتتال على السلطة والثروة. وما حدث هو أن القوى المتصارعة، باختلاف ألوان راياتها وشعاراتها وعقائدها، مثل سائقي السيارات في ذلك المساء في جزيرة الدوران سيئة الصيت تلك، ركبهم شيطان العناد والطمع، فأدخلوا بلدانهم وشعوبهم في أنفاق معتمة، ملوثة، بلا مخارج. وكان بإمكانهم، لو حكموا العقل والمنفعة والمصلحة، التوافق والاتفاق على اقتسام الغنيمة، وكفوا بلدانهم وشعوبهم شر الخراب والدمار وأنهار الدم. لكنهم، مثل أي لصوص آخرين، لاستشراء لصوصيتهم وطمعهم وجشعهم، وفساد طباعهم وخلقهم، أراد كل فريق منهم أن يستأثر بها وحده.