Atwasat

جـمـبـري مـقـشّر

نورالدين خليفة النمر الخميس 07 أكتوبر 2021, 09:49 صباحا
نورالدين خليفة النمر


يشكو ـ عموماً ـ من يكتبون أدباً والقصة خاصةً، في ليبيا منذ عقدين من غياب النُقّاد الذين يتناولون كتاباتهم بالدرس. الكاتب عُمر أبوالقاسم الككلي الذي تُعتبر قصته معياراً نموذجياً لتقبّل التحليل والتفسير، بيّن في مقابلة صحفية قديمة معه الأسباب الموضوعية لغياب نقاد الأدب الحديث في ليبيا.

حظيت الشعرية الليبية الحديثة بالكاتب خليفة التليسي، الذي كان مؤهلاً للنقد حسب أصول المدرسة الرومنطقية. ولكن ليس الشعر بل القصة الليبية القصيرة، في عقودها الثلاثة، كانت هي المؤهلة لأسباب تخص ليبيا الحديثة، دون الضروب الأخرى من الكتابة الأدبية، للدراسة النقدية. وعندما نذكر القصة الليبية القصيرة فإننا نتوقف عند الكاتب كامل حسن المقهور ومجموعته "14 قصة من مدينتي" التي لم تتعرّض للنقد والتفسير والتحليل. لنختر منها قصتين هما "السلام على منصورة"، و"الطريق" و "عيناه خطان أسودان" من مجموعته الثانية "الأمس المشنوق" وإن كانتا تنتميان في جوهرهما للمجموعة الأولى. هذه القصص مرتبطتة بمرجعية لها علاقة بتاريخ المجتمعية الليبية في الحقبتين الخمسينية والستينية من القرن الـ 20 كـ ـ استفحال الأمية، والاقتلاع البشري الذي ضرب إقليم طرابلس بسبب الجفاف منتصف الأربعينايت من القرن الـ 20ـ والمعلِّم الليبي الذي تم تأهيله بُعيْد الاستقلال 1951 بقلة الإمكانيات المعرفية ليكون معلماً أو بالأحرى منوّراً.غياب المرجعية المُعاشة سيكون عائقاً أمام الناقد لتفسير هذه القصص للقارئ الليبي الذي لم يعايش ويعاصر هذه الظروف وملابساتها، ويُستصعب فهمها على القارئ العربي الذي لا إلمام له بتاريخية المجتمعية الليبية في هاتين الحقبتين اللتيين لم تُدرسا تاريخياً وسوسيولوجياً من الباحثين الليبيين.

يبرز في هذه القصص الثلاث، عدا عنصر الزمان المحدد أعلاه، عنصر المكان ودلالته في مدينة طرابلس: في 1ـ قصة "عيناه خطان أسودان" المدرسة الابتدائية المكتظة في الصباح بالتلاميذ لتعليم الصغار، وفي الليل لمحو أمية الكبار، 2 ـ في السلام على منصورة الدكاكين المنبثة في شارع سيدي عمران، أو الرصيف الخلفي للسوق المركزي للسمك (الحوت) بامتداد سوق باب الحرية في شارع المأمون، حيث يصطف كتاب الرسائل المسمَون بالتركية "العرضحلجية" لكتابة العرائض والشكاوى ورسائل الأميين المنقطعين عن آهاليهم لهم، 3 ـ حافلة الرّكاب تشق الطريق الساحلي، مشروع العهد الاستعماري الرابط بين غرب ليبيا وشرقها. العنصر الثالث: الظرف الإنساني المتمثل في المعلم الخائف من تلاميذه أن يفضحوه ويضيعوا جهده الذي بذله في تعليمهم أمام اختبار المفتش التربوي. والأمي الذي ارتجل بداية رسالته بالسلام على منصورة زوجته وتوقف بعدها مرتبكاً فظل يعيد جملته أمام كاتب الرسائل (العرضحلجي). والأب سائق الحافلة العائد من رحلة الـ 1000 كيلومتر من بنغازي إلى طرابلس الذي يمضه القلق على ابنه الطريح على فراش الموت .

الواقعية التي كتب بها القاص كامل المقهور قصص مجموعتيه 14 قصة من مدينتي والأمس المشنوق كانت تنطلق من الواقع في الطبيعة كما هو، ومن واقع المجتمع الذي يعيشه الإنسان، وتصوّر الصراعات القائمةَ مع ذلك الواقع تصويرًا واقعيًّا نقدياً، يتجاوز الستاتيكية إلى ديناميكية تتشكل في وصفٍ وسردٍ وحوارٍ يعطون اهتمامًا كبيرًا للتفاصيل مهما كانت، مثل وصف الأصوات والحركات والألوان والأشكال. وهذه الواقعية القصصية تتوخى في أسلوب كتابتها التقنيات المشهدية لـ "الواقعية الجديدة "Neorealismo cinema " الحركة الثقافية السينمائية التي ظهرت في إيطاليا في الأربعينيات 1942 وامتدت حتى عام 1961، وتسمت بالواقعية الجديدة وتميزت بميزتي العرض الوثائقي، والارتجالية العفوية .

نقتطف مقطعاً نموذجياً من قصة "السلام على منصورة" يكون متمنعاً إزاء تفسير الناقد الذي يفتقد المرجعية التي يكتب منها القاص. يختصر المقتطف الميزتين الوثائقية (الوصف): "وابتسمتُ وأنا أضعُ في جيبي الورقة الحمراء (خمسة قروش).. والطريقُ المار أمام المستشفى يمتد أمام عيني… والبناء الضحم ورائي موحشاً ساكناً يعج بالأصدقاء، عشراتٌ منهم… كلهم يقولون… دائماً يقولون.. كيف حال منصورة… يا مبروك!”. الوصف: "وتركت البناء الضخم ورائي موحشاً" يخص مكاناً هو مستشفى شارع الزاوية المركزي بطرابلس، ببنائه الكولونيالي الإيطالي الفخم، والذي شُيد عام 1924 في أساسه كمستشفى عسكري، إلى جانب الأبنية المحيطة به كدار الموتى، والمشرحة وبنك الدم ، وورش صناعة التوابيت، ومحلات مستلزمات دفن الموتى الطليان. المستشفى كصورة موت تتمظهر سرداً في هذا المقطع الحواري الدّال في قصة الطريق "ـ يقول الأب: نرفعوه للسبيتار(المستشفى)؟ .. ترّد الأم: ـ والله ما يعفسه.. ثم ينخفض صوتها إلى أقصى حد: ـ نبي ولدي يموت بحداي .

في المقطع الثاني من "السلام على منصورة" يكون السرد حيوياً: "وابتسمتُ (…) والطريقُ المار أمام المستشفى يمتد أمام عيني" هو إحاطة بالأجواء الإنسانية الليبية المتمثلة في أنشطة المحلات والدكاكين المقابلة للمستشفى: القصابين المتجاورين، ومخبز(كوشة) الحطب، والفطائري (السنفاز)، والطبُرنة(الحانة)، ومصلح الدراجات (السكليستي)، والبِقَالات والمقاهي وأكشاك لبيع البسكويت والحلوى والعصائر يشتريها العائدون مرضاهم. أما العفوية (الحوار السردي) فيبينها هذا الجزء من المقطع: "مشغول على منصورة!/ وابتسم الحارس الواقف على باب المستشفى وقال في لهجة رطبة وعيناه تتبعان الخارجين:/ نقزتها يا مبروك../ ثم أمسك بيده ورقة من ذات الخمسة قروش../ حتى شدوقك انتفخو… والله نزاد فيك النفص!/وكان ذلك في الصيف.. في يوم الجمعة.. عندما ابتدأتُ أبحثُ في الطريق عن وجوه الناس.. وكانت تذكرّني بالجميع.. بالصغار.. بفتحي.. بابتسامته الصغيرة.. بالحبوب فوق جبهته.. وهو ينظر إلي.. ويشير في شقاوة../ بوي.. دمالتي فقــست !". كنقاد مفسري ومحللي أدب نتوقف هنا أمام تعبيرات لا يلتقط حمولتها الاستعارية، والكنائية من أفواه الناس إلا كاتب قصة ليبية بموهبة كامل المقهور. وهذه التعبيرات هي: "نقزتها يا مبروك (..)/ شدوقك انتفخو/ والله نزاد فيك النفص !/بوي.. دمالتي فقــست. "!

عنصرا الوثائقية والارتجالية تمت استعادتهما من قبل الكاتبة عزة كامل المقهور في “30 قصة من مدينتي” خروجاً اضطرارياً من معطف الأب. حتى تستقل بشخصيتها الأدبية عن كتابة أبيها. فعكسه الذي عنون باستعارة كنائية ليبية مجموعته القصصية الرابعة بقصة "ياسمي .. صبي المي"، فإنها تعمدت أن تكون أغلب عناوين قصصها استعارات كنائية ليبية محضة. من هذه القصص "حوش الياتريك" الإزاحة الاستعارية المستعادة من مرجعية طفولتها منقولة عن الكاتب ـ الأب، وهو يشير لأطفاله واصفاً مبنى شركة الكهرباء الطرابلسية .
العنوان "حوش (بيت) الياتريك" أربك نقاد الأدب المصريين في النقاش* الذي جرى بين الكاتبة وبينهم حولها. فانزاحوا من العلامية المحتشدة بالحمولات الرمزية في موروث الكاتب كامل المقهور، وانحازوا كعادتهم إلى المضمونية المُسطحة في تفسير القصة. أحد النُقاد المشاركين قارن أعجمية لفظة "الياتريك" بـ "الكاكاوية" في قصة "قشور الكاكاوية ـ تسمية الفول السوداني في اللهجة الليبية ـ" فانزاح عبر فعل"التقشير" إلى "الجمبري" الحيوان البحري الذي يتسمى كوجبة غذائية مصرية "جمبري مقشر”. نختم بمثال أورده "رومان ياكوبسن" في سياق مقارب في كتابه "قضايا الشعرية" عن سمكة صغيرة تؤكل ـ فقط ـ مقلية في الزيت، بأنها فقدت تسميتها الوراثية وصار إسمها "سمكة بالزيت".

* إشارة إلى النقاش الذي تم بتاريخ 2021/09/02 عبر "قصة اونلاين" باستضافة موقع صدى ذاكرة القصة المصرية .