Atwasat

حكايات تشبه السيرة الشخصية: عن الإنسانية (1- 2)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 سبتمبر 2021, 09:42 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لا أحد، لا أحد على الإطلاق، يحب أن يعيش «وحيداً كحجر صوان أملس لا ينمو، لا فوقه ولا تحته ولا على جوانبه حتى الشوك» وحتى إن عاش كذلك لأسبابه الخاصة فإنه بالتأكيد لا يود أن يرحل وحيدا كقطرة مطر سقطت في فم ضفدعة». لم أعش يوماً وحيداً أو حاسا بوحدة بأي حال من الأحوال، ولم أعش لنفسي فقط؛ بل عشتها بأبعادها كافة بين أهلي ورفاقي وأصدقائي، قد أكون أحياناً كـ «حجر صوان» متحفزا لأن أقذف به من يحول بيني وبين إنسانيتي.

فاسمحوا لي أن أحدثكم عن هذه الإنسانية، التي قالت لي عنها، ذات مرة، صديقة غاضبة: «قطعّتنا بهذه الإنسانية!». سوف أحدثكم عن حياة إنسان عاش بكل ما في الحياة من رقي وجمال، ومن خسة وقبح، وإيمان وكفر، وحب وغرام، وكره وانتقام، وكفاح وخذلان، وهزائم وانتصارات، وفقر مقيت وثراء أمقت، ولكن في الأحوال كلها كان النصر على الدوام للإنسانية التي تفردنا بها من دون مخلوقات الله كافة.

هذه الليلة المباركة، التي تصادفت أنها ليلة عيد ميلاد أحد أقرب أصدقائي، الذي عندما انتبهت إلى أنه بلغ الثمانين، وكنت بمفردي أسفل سماء صافية وقمر منير، وتصادف ذلك مع تفكيري وتأملي في مسألة الإنسانية، انتبهت إلى أنه نموذج هائل لها، ولكن لم يتركه بقية أصدقائي الأربعة في المنصة بمفرده، صعدوا وجلسوا، مبتسمين ساخرين مني، وكأنهم يقولون: «حسنا! جد لنا مكانا ترضاه لنا، أم نحن جئنا على العين العوراء» وتحسست عيني هكذا لا إرادياً، وأشهد الله أن المشترك بينهم هو القناعة بالإنسانية، في السلوك وفي الحياه، والثقافة، في الفرح وفي الغضب، وفي الحزن والبهجة. وانتبهت إلى أنها هي التي جمعتنا طوال حقب متصلة لم تنقطع تحت كل الظروف.

فيا أصدقائي الخمسة اقبلوا مني هذه الحكاية كما هي، سوف أكتبها إليكم على حلقات، ولأننا نشترك فيما قرّب بيننا، وفي أحداثها، وقد أكون قد سهوت، أو نسيت أو أخطأت، فوجب التصحيح قبل أن يضمها كتاب، والكتاب مستند لذوينا وأصحابنا وللتاريخ. أنا أكتب إليكم هذه الليلة من حديقة شقتي في القاهرة، وهي مثلما تعرفون باستثناء واحد منكم، رقمها (63) في الدور (13)، وهو الأخير في عمارة مباركة تقع بالمناسبة في شارع القدس الشريف.

يفترض حسب رسومات الخريطة أن تكون ما تعارف على مثلها بـ (Penthouse) وهي شقيقة صغيرة فوق السطح لا تتجاوز مساحتها، غالبًا، غرفتين، ويفترض أن تكون فيلا صغيرة باعتبار أن جزءاً كبيراً من مساحة السطح يكون بمظلات، وشجيرات صغيرة. ولكن في القاهرة، هي مجرد شقة فوق السطوح! إنما «دمها خفيف» وأنا أرتاح فيها للغاية، وأنام ملء جفوني، وغالباً ما تكون أحلامي فيها رائعة.

عندما اشتريتها من حوالي أربعين عاماً، مثلما تعرفون، لم تكن مقراً لسكني بقدر ما كانت استراحة لإقامتي بدلاً من الفنادق الفخمة التي أنفقت ورفاقي بها الكثير، فالقاهرة كانت واحتنا الدافئة المريحة، عبر مكتباتها وندواتها ومحاضراتها الرسمية، وغير الرسمية، المنغلق منها والمفتوح، تعلمنا وعرفنا السبل الحقيقية للحياة الدنيا، والآخرة أيضاً. كنا جيلاً علمنا أساتذة مصريون في الابتدائية، والإعدادية، والثانوية، ثم دفعوا بنا للحياة، عبر سنواتنا الجامعية.

رحلاتنا إلى مصر متصلة، من مطلع ستينيات القرن الماضي، ولم تنقطع سوى خلال تلك القطيعة التي استمرت سنوات، ومع ذلك أوجدنا سبلاً لزيارتها. أنا من جيل سمع صديقنا الأستاذ الإعلامي والكاتب الكبير مهدي قاجيجي يقول في ذات حديث: «مصر إن أحببتها أحبتك، وإن كرهتها كرهتك!» وأنا أُخذت بهذه الحقيقة، لأنني عشت هذا الحب، وهو ما زاد بقناعتي أن أجعل منها «مسك» تقاعدي الاختياري.

لقد ترعرعت في بنغازي في بيوت عديدة صغيرة، منها بيت جدتي في شارع محمد موسى، وهو الوحيد الذي لم يكن مؤجراً! ولكن برحيل جدتي زمزم، بدأت مسيرة البيوت المؤجرة، في شارع نبوس، وفي شارع لحيول، وشمسه والرعيض، وانتهى أمري في (دارتين) شاسعتين، في الفويهات الغربية، ذات السمعة الجيدة والخير الوافر. لي فيهما ذكريات ملونة، وجميلة، ولكن للشقة (63) طعم خاص وعلاقة مستمرة تكاد تصل نصف عمري !.

قلت في نفسي ذات مرة، لو أن رقم هذه الشقة كان (61) لكان مناسباً لحالتي النفسية الآن! لماذا أقول لكم ذلك؟ لأنه للرقم (61) معنى ليبيا خاصا، فالقول أن: «الواحد والستين في اليد، يعني لاعب ورق لعبة (السكمبيل) الليبية قد كسب نقطة واحدة، وخصمه خاسر، ومع ذلك لا يزال يسعى نحو (الكبوط) ليتحصل على نقطتين، بعد اجتياز 81 نقطة. ولعبة (السكمبيل) تُلعب إما بنفرين، أو بأربعة، وأيضاً بستة، ولعل ذلك بسبب رغبة، أو إسقاط، قد يكونان دفينين، في اجتياز ما حلله الشرع! »

ولقد صحوت فجر هذا اليوم المبارك، بلا سبب محدد، فالواقع أنني ظللت طوال حياتي أعيش جمال الفجر قبل نومي، وليس بعده! صحيح أنني بدأت الآن، أغفو في حديقتي المحاطة بمجموعة أُصُص، أغلبها مزروعة بشجيرات ياسمين وفل وريحان، وأنواع من زهور صبار مقاومة لحر الصيف الشديد، وغالباً دائمة الخضرة والزهور.

فللسيدة الراقية، التي تشاركني حياتي في هذه الشقة، وله بالزهور والخضرة، فجعلت منها حديقة معلقة، أصبحت استراحتي المسائية، أفضل في الغالب أن أستقبل، بنسائمها المغرب، متأملاً أسراب حمام بري متخذاً من تقسيمات الطوابق العلوية من عمارة تعلو عمارتي بثمانية طوابق، مقرات لقضاء ليلها الذي يبتدئ تماماً مع غروب الشمس، أراقبها تتشاكس، تقترب وتتباعد وتتراقص برشاقة لا ينتبه إليها سوى من يتأملها، إلى أن تستكين، ويخبو هديلها.

نسائم الليل، وأضواء، وبريق نجوم ليالي شهري أغسطس وسبتمبر القاهرية، وأيضاً مارس وأبريل، وأحياناً جزء كبير من مايو، يعرفها من عاشها وأحس بفرحة المصريين واستمتاعهم بها. وأعود إليها قبيل أذان الفجر. يكون الحمام انطلق في رحلته الصباحية، التي لا أظن أبداً أنها سعي وراء الطعام بقدر ما هي تحركات تشبه تشكيلات رياضية جماعية، لأنني ليس من خلال حديقتي المفتوحة، وإنما من نافذة المطبخ حيث أصص لزهور يفصلني عنه زجاج، أضع له حبات من القمح، ولكنه لا يقترب منها إلاّ بعد رياضته الصباحية.

ينتقى منها بالحذر كله، إن استمررت في نقر حروف جهازي من دون أية حركة مباغتة، يستمر في التقاط الحب، أما إن قمت بأية حركة مفاجئة، ينطلق بغتة وفي حركة جماعية! وللموضوع بقية.