Atwasat

هوامش مفتوحة.

رافد علي الخميس 23 سبتمبر 2021, 10:21 صباحا
رافد علي

لا شك في أن الحرية شكلت في الفكر أيقونة جميع قضايا الإنسان وصولاً إلي فكرة ربط الحرية بقضية العدل، فالحرية، خارج منظومة العدل ستكون ترسيخاً لحالة فوضوية، تتضارب فيها الأطياف والنزاعات والمصالح لأنها ؛ الحرية، تعتبر حيزا مفتوحا تشاع فيه للإرادة كل ما تميل إليه وترغب فيه، في حين أن العدل ضابط قيمي يحمي الجميع بما يوفر من ضمانة لمصالح الكل ضمن فضاءات الحرية ذاتها.
فإشكالية العدل والحرية، كقضايا بارزة في دولنا المعاصرة، هما سليلتان لمراحل منحة تاريخنا الذي لم يقف جدياً لأجل جعلهما من قضايا مصيرنا التاريخي سابقاً وحديثاً. فعلى مستوي السياسة، كان السلطان أو الخليفة يؤدلج الدين، بمذاهبه المختلفة، لأجل صياغة مشروعية منطق سلطانه، وانكب علماء الدين أثناء سطوة الملك العضوض على حصر الدين في مسائل كثيرة متنوعة وفرعية، جعلت من الدين الحنيف اجتهادا فقهيا مدرسيا كان دائماً وقوداً للتكفير وللصدام وللحروب، التي يشهد عليها تاريخنا بشكل صريح. لقد استهلكنا الكثير من الزمن، كأمة، في أدلجة الدين كمعرفة، مما فوت عنا فرصة الخوض في الكثير من المواضيع التي توصف اليوم بأنها من القضايا المسكوت عنها في التراث، وقد بذلنا، كأمة أيضاً، الكثير من الوقت في ممارسة الدين كطقوس، دون ممارسته كحالة وعي يسعى لتحقيق العدالة لصون حريتنا، إذ سادت بيننا الأصوات المتشددة في أغلب أوقاتنا ضمن حالة انحطاط حضاري يغرق في تخلف قوض الفكر والحرية والعدالة أيضاً، رغم أنها جميعاً تندرج تحت فضيلة الإحسان.

فالمعرفة والآيديولوجيا حالة تضاد، فمتي حضرت المعرفة انحصرت الآيديولوجيا، لا لشيء، ولكن لأن الآيديولوجيا حالة تأطير تقيدي معين لا يُخرج عن حدوده، في حين أن المعرفة قضية ذهنية، تُكتسب بشكل مستمر ومتجدد، فلا معرفة حقيقية بعيداً عن الحرية.
قضية العلاقة بين المعرفة والسلطة من القضايا التي اشتغل بها الفكر الإنساني قديماً وحديثاً، فخطر السلطة على المعرفة تكمن في التعسف والتقييد والتوظيف وحصر الحرية بغرض الانتهاز، فالمعرفة قيل قديماً بأنها "إرادة الحقيقة"، بمعنى أن تبحث عن الحقيقة بعيداً عن أي مسلك مشروط مسبقاً من قبل السلطة، ومن هنا جاء صميم النقد الموجه لأسلوب التلقين المعرفي، الذي في درجات منه يعتبر حالة من حالات غسل الأدمغة، أو برمجتها نحو توجه معين، كما تفعل بعض التيارات والحركات في إعداد كوادرها في الساحة السياسية المعاصرة، ضمن إطار الأدلجة التي لاتزال من تدابير التلاعب بالعامة، كما هو بيّن في الخطابات الشعبوية السائدة في عالمنا المعاصر بأنواعها المختلفة.

رجالات الفكر المعاصر في عالمنا العربي، في حقبة السبعينيات، حينما اشتغلوا على قضية الحرية، كما فعل علال الفاسي والحبابي والعروي والغنوشي أيضاً، تناولوا القضية كأساس مجرد، ولم ينتبهوا إلى أن قضية الحرية تصح في الدولة العادلة، كما يتفضل المفكر فهمي جدعان، وهذا ليس انتقاصاً مما يطرحه رجالات الفكر عموماً، فتلك الكتابات عن الحرية كانت قديمة عما استجد من مفاهيم في قضايا الحرية "الليبرالية" بحقبة الثمانينات، خصوصاً بعد أن قدم جون رولز أفكاره بالخصوص ضمن ما عُرف من تمظهر الوحشية في الليبرالية الغربية. الحرية في عالمنا العربي والإسلامي، رغم كل التنظير لها في ثقافتنا وتراثنا لم تكن قبل عصرنا هذا من القضايا الملحة على السلطان أو الخليفة، الذي امتلك منذ البداية حق التشريع والتقنين، وكذلك حق إختيار وجهة الدين في دولته، ولعل القصة منذ الخليفة المأمون إلى الخليفة المتوكل شئ يبرهن على أن توجهات السلطان الشخصية هي الأساس، وليس في البلاط من إرث حقيقي للخلافة السنية ذاتها، إذ ظل الحال في عز التسلط والصراع على الخلافة شيئا لا يخلو من التداخل بين الديني والسياسي، والعكس، بشكل كبير وكثيف، وهذا شيء لازال جلياً في أرضنا التي لازالت تكابد محنتها رغم تغيّر العالم وتطور المفاهيم، وبالتالي تبدل حيواتنا بشكل جذري. فقضايا العصر كنا قد تعرفنا عليها، كعرب، من الغرب، ورغم كل تلك الأفكار المطروحة بجراءة وانفتاح لم يتم غرسها فينا، ولازالت حتماً لا تشكل لنا تراثاً نتجادل فيه، ومن خلاله لأجل خلق توجهاتنا المعاصرة. فالدولة العميقة لدينا، بالمفهوم المبسط، تظل المؤسسة الدينية فيها، مؤسسة محاصرة بالتقليد، ولا تسمح لنفسها بأن تفتح مجالات للاجتهاد الساعي للتجديد، حتى ضمن صياغة جديدة في الخطاب، بل إن الدين الشعبي الذي يسود الشارع، لازال غير قادر على سبر مقاصد دينه الدنيوية المبنية علي مبدأ دنيوي بحت "واسعوا في مناكبها" لكون الدين الإسلامي لا ينادي المسلم بأن يكون عبارة عن كتلة دينية جامدة. كما أن المثقف العربي، من جهة أخرى، تبنى معاناة الخوف والعزلة لأجل سلامته وحفظ نفسه.

الهوامش المذكورة أعلاه من حرية وعدالة وأدلجة للمعرفة واستبداد السلطة تجاه الجميع، تجرني إلى قضية هنا للحديث عن الجدلية القائمة بالبلاد، والمتعلقة بحق حرية الاعتقاد الديني التي طرحت محورا للنقاش منذ أسابيع في Club House، والتي أجدها جدلية غريبة وعجيبة، فالليبيون اليوم شعب غير متعدد الشرائع، فهو شعب مسلم ويتبني المالكية مذهباً، فمن يحشر هذه القضية في العلمانية أظنه يبالغ كثيراً، لأن الدولة العادلة كأساس جذري، علمانية أو عداها، فإن من واجبها رعاية حق العبادة لرعاياها، وكذلك للمقيمين على أراضيها ضمن مبدأ الإحسان، سليل مبدأ العدل الراسخ في فضائل الأخلاق والشرائع. أما رمي جدلية حرية الاعتقاد والعبادة بأنها رمية لأجل ضمان حق عبادة لليبيين اليهود الساعين للعودة لليبيا، فأعتقد أن الجدلية هنا، جدلية مسيسة أساساً، فللدولة حق التعامل مع قضية عودة اليهود ضمن إطار قانوني وسياسي. ففي الشق السياسي، على من أمست البلاد بيده اليوم، عليه أن يعرف بأنه محكوم بمبدأ توارث الحكومات لالتزامات دولها وفق القانون الدولي وأعرافه. كما على من صار بيده امر البلاد الآن أن يدرك أن ليبيا، وفق مفاهيم القانون الدولي، تعد في حالة حرب مع إسرائيل من الناحية النظرية فقط بعد أن أرسلت ليبيا حجيجاً للقدس في تسعينيات القرن المنصرم، ما لم تكشف اوراق الوفد الليبي للحج حينها بأن رحلة الحج تلك "لا تعني بأي شكل من الأشكال حالة اعتراف بإسرائيل". فالقضية هنا قضية سياسية صرفة تدعمها حالة الانبطاح العربي المفضوح تجاه إسرائيل. أما الشق القانوني من عودة يهود ليبيا، فأعتقد أن لكل دولة حقا سياديا في تنظيم حقوق وواجبات رعاياها ممن يتمتعون بجنسيات أخرى من حيث التملك والتعويض وصيانة الحقوق المدنية والتزاماتهم الوطنية كالضرائب والخدمة العسكرية واحترام القانون وسيادة أوطانهم، فلا حاجة للتشويش على الناس، ولا لخلط الأوراق.

في كل هذه الهوامش المفتوحة نظل نتخبط، لأن مفاهيمنا غير منضبطة، وأن وعينا بحال واقعنا المعاش غير ناضج لأننا لسنا أحرار ولا عادلون في عصرية نعيشها بلا إدراك حقيقي بأنها عصرية لا تحترم الضعيف والمشتت الواهم بأن "مدح الحماقة" من صيحات عصر اللا قواعد في مرحلة ما بعد الحداثة.