Atwasat

ملاحظات عن العلم والسياسة والدين

جمعة بوكليب الخميس 23 سبتمبر 2021, 10:17 صباحا
جمعة بوكليب

العلم والدين عالمان مختلفان حد التضاد. تفصلهما مسافات فلكية. ولكل منهما مداره الخاص، وما يدور حوله من كواكب. ومحاولة الجمع بين الاثنين - كما حاول ويحاول كثيرون - مجرد مضيعة للوقت والجهد. فما يحققه العلماء في المختبرات من إنجازات علمية، في مختلف أنحاء المعمورة، قديماً وحديثاً، لا علاقة له من بعيد أو قريب بعقائدهم الدينية، أو بعقائد غيرهم. وأذكر في المرحلة الإعدادية أن مدرساً للغة العربية، بمدرسة الحرية الإعدادية، كان يردد على مسامعنا استياءه من الذين يحاولون الربط بين الدين والعلم. والسبب، كما كان يؤكد، أن الدين ثابت غير قابل للتغير، في حين أن العلم يتغير كل يوم. وما اتفق من أطروحات العلم وحقائقه المختبرية مع الدين صدفة اليوم، قابل للتغيير في الغد. وأعترف أن ذلك المدرس كان أول من لفت اهتمامي إلى هذه النقطة المركزية المهمة. وهو، في الحقيقة، كان آنذاك، يعبر عن شدة إحباطه مما كان يسعى إليه البعض من ربط الآيات القرآنية بحقائق علمية. وفي مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، ومع انتشار التلفزيون، كنا نشاهد برامج عديدة، يقدمها أشخاص لا تنقصهم شهرة، ويتقدم أسماءهم حرف (د)، إشارة إلى مكانتهم العلمية، يقضون ساعات لإقناعنا بعلاقة أثبتت الأدلة أنها عارية عن الصحة.

ما يقال عن علاقة العلم بالدين من الممكن، وباختلاف ملحوظ، أن يطال علاقة السياسة بالدين. فالسياسة عالم قائم على المصالح الدنيوية. والمصالح بطبيعتها متغيرة، ومتضاربة، وفي المركز منها التنافس. ووسائل تحقيقها عادة ما تخرج عن أطر قيم الأخلاق، وما نهت عنه الأديان. وربط السياسة بالدين، يتجلى عادة بوضوح أكثر، في أوقات سيادة الاستبداد، أو اشتداد الاضطرابات الاجتماعية، وفقدان الاستقرار، كالتي تمر ّبها بلادنا في السنوات الأخيرة، حيث يكون الدين ملجأ للناس يحتمون به من تقلبات الوقت والخوف من الهلاك. وهذا بدوره يفضي إلى منح رجال الدين، بسبب مكانتهم الدينية، والاجتماعية، سلطات وصلاحيات تخولهم الخوض في أمور سياسية معقدة. ورغم أن علوم الدين تقتصر على أمور العقيدة وشرحها وتذليل ما صعب منها للناس، والنصح والإرشاد والحث على فعل الخير، إلا أن التاريخ يؤكد لنا أنه متى أتيحت لهم الفرصة، سرعان ما يتلقونها، و ينخرطون بقوة وبسرعة في أمور وشؤون سياسية تفوق مداركهم، ليس لهم دراية بها، أو خبرة، مستعينين عليها بما يقدمونه من تفسيرات لنصوص دينية، وفقاً لما تمليه عليهم مصالحهم الشخصية، ومصالح من يدعمونهم أو يدينون لهم بالولاء. الأمر الذي ينتهي بهم وبمن يتبعونهم إلى كارثة. كتب التاريخ تمتليء بالشواهد. وعلى أي حال، علينا الاعتراف بأن رجال الدين، في كل الأديان، بشر مثلنا، لا ينقصهم الطموح، ولا الانتهازية، ولا حب السلطة والنفوذ، ومثلنا عرضة لأهواء عائلية، وقبلية وجهوية... إلخ

ورجال الدين في بلادنا ليسوا استثناءاً، إلا من رحم ربي. فمنذ بدء الصراع على الثروة والسلطة بعد فبراير 2011، انخرطوا كغيرهم فيه، وانحازوا إلى مختلف أطرافه وفقا لمصالحهم. وصاروا لا يتورعون عن الخوض في الشأن السياسي وتعقيداته الداخلية والخارجية، ويسعى كل فريق منهم إلى الاستعانة بالنصوص الدينية لتقوية الطرف الذي يؤيده في الصراع، ولتأكيد أحقيته بالسلطة أكثر من غيره. الغريب، أن النصوص الدينية المستخدمة في الحجاج بين الطرفين، كما رصدناها، تكاد تكون واحدة. لكن بسبب تدخل الأهواء والمصالح الشخصية، تصير عرضة لتفسيرات ملتوية، ومن كل الأطراف. وكل ذلك من دون أن تتحرك نأمة خجل عند هذا الطرف أو ذاك. ولذلك السبب، كبرت وانتشرت مزدهرة أسواق الفتاوى. وأذكر أن أحد المشائخ في برنامج تلفزيوني، حين سئل عن جدوى تدخل أهل الدين في السياسة، رد قائلاً بأن الرسول الكريم كان رجل دين ودولة.

وكون الرسول عليه الصلاة والسلام كان رجل دين دولة فهذه حقيقة غير عرضة لجدال، فرضتها ظروف الدعوة الجديدة الساعية لبناء دولة جديدة، على أسس وأنماط غير معهودة في السابق. أضف إلى ذلك أن مصلحة الرسول الكريم كانت في تتبيث أركان الدين الجديد، ونشر الامانة التي كلف بحملها في بقاع الأرض. ولم تكن له مصلحة دنيوية ربحية مغنمية في انتظاره كجائزة له على فعله، ومات فقيراً. وبالتالي، تنعدم شروط المقارنة، لافتقاد رجال الدين، المتورطين في الصراع السياسي الليبي، لنفس معايير الأخلاق النبوية وسموّها، واختلاف النوايا والأهداف، مضافاً إليهم أن الرسول الكريم كان يقود مؤمنين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وليس لصوصاً وقتلة يتصارعون على غنيمة. ولأننا أدرى بأحوالنا، وبما يدور في واقعنا من مؤامرات، وتدليس وكذب وسرقة للمال العام وغيرها من السلوكيات المنحرفة داخل المعترك السياسي، ومن كل أطرافه وقياداته المعروفة، فمن حقنا أن نتساءل كيف لرجال الدين النجاة بسمعتهم من قذارة مستنقع كهذا، يخوضون فيه حتى الركب؟