Atwasat

المستقبل لا ييأس من الانتظار!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 21 سبتمبر 2021, 11:48 صباحا
أحمد الفيتوري

إذا كان المستقبل، لا ييأس من الانتظار، فإن سالم العوكلي: لا ييأس من المستقبل، ما قد يكون دافعه إلى الجدل والمثابرة في الاختلاف. حيث تشوب كتاباته، روح مشاغبة، وباحثة دوؤبة عن المختلف عليه. فيما يبدو ذاك، كما معتقد يؤمن به، لكن لا يدعو له، ولا يبحث عن مريدين، بل ويمقت بطبيعة الحال الأتباع. شغفه أن يثير ما سكن، دون طمع ما في جمهور، فالكتابة ما يكتب، لا تصنع فيها، ولا الأفكار تداعب المحبوب، وكأنه بما يكتب، وما يثير من جدل، لا يستسيغ أن يكون النجم الساطع، ولا الكاتب المطبوع، من ينتظر القراء مقاله القادم.
لقد تابعت، ما ينشر سالم العوكلي، بقراءة متأنية وإعجاب، وخلال بحثي، في الشغل الفكري والثقافي الليبي، هالتني الوشائج، بينه وبين كاتبين مبدعين، من أهم من اشتغل في الفكر والثقافة، هما الصادق النيهوم وسعيد المحروق. من تفردا أسلوبا، وفي أطروحاتهم الفكرية، وطرائق البحث والمحاورة، مع الفكرة التي تنقض، أو مع الفكرة التي تطرح، والشراسة التي تجمعهم، ضد ما يختلفون معه، فهم ينزعون إلى المختلف عليه، لكن بوازع مناكفة السائد أولا، وقبل استحداث فكرة ما.

لكن هناك اختلافات بينة بينهم، فسالم العوكلي يحاور من ينتقده ويناقش طروحاته، وليس كما "النيهوم الذي يرفض أن يناقش، من انتقدوه أو ناقشوه، متذرعا بكونهم، يعيدونه إلى منطقة الفكر، التي جاهد ردحا من الزمن كي يغادرها"، كما يقول سالم العوكلي، من يختلف عن "سعيد المحروق" البارع في خلق خصومات خارج النص، خارج سياق المطروح.

ومبعث هذا التقدمة، أني أريد مناقشة، مقال سالم العوكلي: "ليس في الجراب غير الدين"، ما نشر ببوابة الوسط الثلاثاء 4 أغسطس 2021م، ويذهب في هذا المقال، الى مناقشة مقالي"قارئة الفنجان التي تقود البلاد" المنشور ببوابة الوسط 17 أغسطس2021 م.
أولا: مدخل مقال العوكلي، يتماس ومسألة غاية في الأهمية والتعقيد: علاقة السلطة بالفكر، من خلال علاقة المفكر الصادق النيهوم بالعقيد معمر القذافي. ومن هذا يبدو وكأنه، كما بدا لي، يفتتح المناقشة بمسألة المسائل: "أن ليس في الجراب غير الدين"، دافعه التماهي بين سلطة متسلطة، وفكر ملتبس:يتمظهر كشطحات مفكر، منظر لفكرة الطريق الثالث، وعند آخرين الأصالة والمعاصرة. وهذا ما هو طريقته إلى السلطة، بمعنى أن يكون النيهوم المفكر والقذافي الأداة، كما يأمل المفكر، لكن القذافي في هذا برجماتي، حيث يحصر المسألة، في مبدأ "الأمير" الميكافيلي الشهير: الغاية تبررالوسيلة.

ويبدو وكأن العوكلي، يدفع إلى أن جدل السلطة والمثقف، في الحالة الليبية، كرس حال: أن ما في الجراب غير الدين، فالمفكر النيهوم: يموضع السلطة، كما الصلاة جماعة، فيما يرى العقيد القذافي، أنه بهذا يكون الإمام. ولست في هذا على خلاف مع أطروحته، كما سبق ووضحت في كتابات سابقة، لكن هذه الأطروحة ينقصها الحفر، فالقضية من القضايا الكبرى، ومسها في توسطها الليبي، بحاجة لمناقشات من زوايا متعددة، بالإضافة إلى أن النيهوم، صاحب أطروحات ملتبسة، كما موقعه الشخصي من السلطة!.

ثانيا: يضع العوكلي، كما يقدر، مفارقة: "المفارق يا أحمد، ولا أعرف إن كنت تشاركني الرأي، أن حاكم أول دولة وطنية في ليبيا، والذي جاء من خلفية دينية عميقة، وطاعنة في التاريخ والجغرافيا، لم يستخدم هذا النهج في الاستقطاب. وحين قرأتُ كتاب بيلت "استقلال ليبيا والأمم المتحدة"، الذي يرصد العاملين المهمين، في تاريخ تأسيس الدولة الوطنية، ويفسح مساحة واسعة، لآراء السيد إدريس وحواراته معه، كنت أرى سياسيا محنكا، بـ (مسحة علمانية)!*، ترى أن حل أزمة بلد خام، مقبل على الدولة، لن يكون سوى عبر السياسة، والاقتصاد والاجتماع كعلوم، واختيار الفضاء الحضاري، المناسب للعمل ضمنه.".

المشاركة في الرأي، لا تعني بالمرة المطابقة. وأجدني أتفق مع العوكلي، حول المفارقة شكلا، لكن أختلف موضوعا، أو كما يقول القانونيون. في الأطروحة الثانية في مقال العوكلي، يفترض أن إدريس السنوسي، ملك المملكة الليبية 24ديسمبر1951-1 سبتمبر1969م ، سليل حركة دينية إصلاحية: ما عرفت بـ "الدعوة السنوسية"، حاكم "أول دولة وطنية في ليبيا"، ورغم هذا، وكما بين العوكلي في مقاله، لم يكون ضمن أطروحة: ما في الجراب إلا الدين.

وسأشاركه الرأي، لكن بالأخذ في الاعتبار، الوشائج التي بين المملكة الليبية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية. وأظن أننا لن نختلف على ذلك، فما وصف به إدريس السنوسي، يمكن أيضا أن يوصف به الملكان الحسن والحسين، فالحسن ملك المغرب أمير المؤمنين، وأما الحسين ملك الأردن، فسليل الأسرة الهاشمية، وجده رسول الله!.

لاشك أن الاختلاف، بين الأنظمة الملكية والإنقلابية العسكرية، ظاهر ولا خلاف فيه يذكر، لكن ما بحاجة لحفر، فتبيين، هو المشترك، على الأقل في تلكم المرحلة، أي ما بعد التحرير والاستقلال. وهو ما يبين أن الأنظمة، التي أعقبت الاستقلال، كانت حبلى بعسكرها الإنقلابيين، وسواء أكانت ملكية كالعراق أو جمهورية مثلما سوريا. وعلى هذا فإدريس السنوسي تقريبا استقال بعد أن مهد البلاد لورثته، وكان في هذا قد مركز السلطة في شخصه، من جهة، ومن أخرى فهو سليل الفاتحين. وهكذا المشترك الرئيس أنها أنظمة سلطة مطلقة، وأن الشرعية تستمد من الدين قبل الدستور، ما عادة في دباجته بشكل ما، حريص على توكيد البعد الديني للسلطة.

ومن باب الاختزال والطرفة معا، فكأن النيهوم أراد تصفية حساب، مع المؤسسة الدينية الملكية الليبية، التي منعت دراسته: "الرمز في القرآن"، فكان داعية في لباس هيبي. ومن هذا كأن المفكر الصادق النيهوم، استولى على السلطة، من خلال العقيد معمر القذافي، من اعتبر أنه وريث السنوسية؟. حيث دعا إلى الالتحاق به، في بيانه الأول، أبناء أحمد الشريف السنوسيين المعارضين، واتخذ نهجا أمميا إسلاميا، حاملا لواء "الدعوة الإسلامية"، ما حملتها قبل "الدعوة السنوسية". وفي عهد الملك إدريس، كانت جامعة "محمد بن على السنوسي" نموذجا للقذافي، ظهر باسم "جمعية الدعوة الإسلامية"، وكذلك نشير، إلى صلة ليبيا في العهدين، بـ "جماعة الإخوان المسلمين".

وبالتالي فالمشترك، بين النظامين عميق، ولعلك ذكرته في سياقه العام، حين قلت: "الألم المزمن، في هذه الأمة، التي ما انفكت عبر التاريخ، تحدق في السماء، بينما الخراب يتراكم عند قدميها. مثل الفلاح البعلي، الذي يحدق في الغيوم، ويصلي لها، وتحت أقدامه على بعد أمتار، يجري نهر مياه. أو مثل قبائلنا، التي كانت في أيام الجوع، تتحارب على سقط المتاع، وتنتظر مائدة من السماء، بينما الكنز، الذي جعلها تبني ناطحات السحاب، تحت أقدامها".

وهنا في هذه المقالة، قدمت إشارات وعلامات، حول ما أثاره سالم العوكلي، فهذه المقاربة تتخذ من المقالة الصحفية وسيلة، وبالتالي المحصلة ستنحصر في إثارة المسألة، فالإجابة الصحيحة تكمن في السؤال الصح، أو كما يقال.

*لقد وضعت بين قوسين، ما افترضت أنه مصطلح سالم العوكلي: (مسحة علمانية)، وذلك لأنه استخدمه هكذا، دون توضيح لدلالته أومصدره. فهل "مسحة" مقتلعة من سياق صوفي، أم من سياق زراعي، وهل "مسحة" هذه باقترانها بالعلمانية، علينا تاؤيلها أنها مرادف "خفة" مثلا؟ ,,, إن الوضوح في هذا الحال كشمس الظهيرة، فإذا ذهبنا إلى قليل من العلمانية، فما كمية هذا القليل؟