Atwasat

مطبات وصكوك على الطرق المتهالكة

سالم العوكلي الثلاثاء 21 سبتمبر 2021, 11:23 صباحا
سالم العوكلي

ما يسمى شعبيا "صكوك ادبيبة"، جولة أحرى من يانصيب السلطة المتلاعبة بمشاعر الليبيين منذ عقود من سياسة الخنق والتنفيس. قد يبدو الأمر تافها ولا يستحق مقالة، غير أنه يستحق التوقف إذا وضعناه في هذ السياق الابتزازي الذي يعتمد الرشوة أسلوبا من أجل استدراج التأييد، خصوصا في قطاع الشباب الذي اكتسب أهمية منذ ظاهرة الربيع العربي، ولا عجب في الأمر لأن الوصول إلى السلطة أصبح عن طريق دفع الرشى.

يستحق هذا الأمر وقفة لأنه، أولا، يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة ودولة القانون، وثانيا، يجيء في سياق أزمة سياسية واجتماعية، والغاية منه إعماء البصر عن القضايا الرئيسية وإلهاء الناس بالركض خلف الإجراءات والزحام على أوهام كما كانت سياسة النظام الساقط تفعل. ولأنه، ثالثا، يعكس طبيعة سياسات عامة تتخذ المسكنات كطريقة وحيدة لعلاج الأمراض المستوطنة.

من أجل أن نعالج، أو نخفف من وطأة حوادث السير على الطرقات، نحتاج إلى اتخاذ إجراءات كثيرة ومكلفة تحتاج إلى رؤية واضحة وإدارة وتنفيذ؛ من طرق واسعة مخططة ومزدوجة، ومُنارة، وموضحة بالإشارات واللافتات، وإلى رادار يحدد سقف السرعة، وإلى آليات فحص فني دقيق للمَرْكبات سنويا للتأكد من صلاحية إجراءات السلامة فيها، وإلى مراكز للإسعاف السريع منتشرة على الطرق ... إلخ. ولكن لتحاشي كل هذه الإجراءات المعقدة والمكلفة والجالبة للصداع، نستعين عنها بإنشاء مطبات إسمنتية على طول الطرقات وعرضها، وحتى في الطرقات التي تسمى سريعة، وهو حل بدائي، سهل وفي المتناول رغم ما تسبب فيه هذه المطبات العشوائية من حوادث وكوارث. وهذا يقع في صميم السياسات العامة التي يتخذها عقل رعوي مترحل وغير مستقر، كل ما يقوم به يعتبره مؤقتا لأن لديه شعورا دائما بالرحيل والمكان مؤقت، وهي الطبيعة التي تسم التخطيط في هذا البلد منذ عقود، فكل إنجاز هو مؤقت وكل مؤقت هو دائم، والعلاج الوحيد والمتاح الكي بالنار أو المسكنات في أفضل الأحوال.

ضمن الحالة نفسها من الضحك على الذقون، تقع ما يسمى الآن "صكوك ادبيبة" التي تتوخى أن تعطي لكل عاقد قران من الجنسين 20 ألف دينار، من أجل حل مشكلة الشبان والعنوسة وتكاليف الزواج .. إلخ . ولأن حل هذه المشكلة يحتاج إلى إجراءات معقدة ومكلفة وجالبة للصداع، فإن كل صك بمثابة مطب على الطريق، سهل ومتاح وفي المتناول رغم ما سيتسبب فيه من مآس لا يتوقف عندها أحد، فالكل سيشاهد حفلات الزفاف، لكن لن يروا الزحام بعد ذلك في المحاكم ومكاتب المحامين المكتظة بمشاكل الطلاق لأن أسباب المشكلة مازالت قائمة.

حل المشكلة كما في حل مشكلة الحوادث، يحتاج إلى التعامل مع مشكلة البطالة، ومع الحد الأدنى للمرتب، ومع أزمة السكن الحادة، ولن يكفي إنشاء مطب في هذا الطريق بتكلفة 20 ألف دينار على التخفيف من المآسي التي ستحدث فوقه مستقبلا، والحوادث التي أوصلت متوسط نسبة الطلاق في ليبيا إلى 70% وفق إحصائية زودني بها صديق يعمل بمنظومة السجل المدني، وأسباب هذه الظاهرة التي تشبه الحوادث على الطريق ستظل قائمة، وهي أزمة السكن والبطالة والمرتبات الهزيلة في معظم قطاعات الدولة لا تكفي أسبوعا من الشهر، وما يترتب عنها من توتر في الحياة ومشاكل أسرية.

أعتبر هذا النوع من الصكوك الاستثنائية، أو المسكنات الآنية، استمرارا لسياسة النظام السابق عندما كان يوزع الرشاوى دوريا كي يخفف الاحتقان، وكي يجعل كل مواطن في انتظار مبلغ من المال قد يأتي أو لا يأتي، المهم أن لا يموت الأمل وأن لا يخفت الرجاء، وهي سياسة لصناعة رعية ساكنة ومتطلبة وتجيد الانتظار والاتكالية. وفي مجملها شكلت إهانات للمواطن الليبي الذي يتحول في دولته إلى متسول حقيقي ينتظر الصدقات من الحكومة التي تهدر ثروته في فساد معلن وغير معلن، ومثلما عايشنا القوائم الوهمية في الكتائب المسلحة أو الميليشيات التي يصرف عليها البنك المركزي، وقوائم الجرحى الوهمية التي استهلكت المليارات، سنرى القوائم الوهمية لعقود القران، خصوصا ونحن نعرف ما اعترى إجراءات الجنسية الليبية والأرقام الوطنية من فوضى وفساد وتزوير.

وحتى لو افترضنا حسن النية فإن هذا المبلغ الزهيد الذي يراه الفقراء ضخما يعادل مرتب شهر واحد لمن تقلدوا بالصدفة مقاليد البلد وذهبوا بها إلى الهاوية، ويعادل سُدْسَ ما صرفه ادبيبة شخصيا في إقامة ليلة واحدة بفندق في روما. "المعلومات التي كشفت عنها قناة “218” تبدأ بفواتير وفد الدبيبة التي صُرفت في العاصمة الإيطالية روما خلال شهر يونيو الماضي، حيث تشير فاتورة الفندق “بتصنيف خمس نجوم” إلى أن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة استغل جناحاً خاصاً بلغت كلفته نحو أربعة وعشرين ألف يورو في يوم ونصف اليوم، أي ما يقرب من مئة وأربعة وأربعين ألف دينار ليبي، وتم الحجز عن طريق شركة اسمها “سجال” لنحو أربعة وأربعين شخصاً يُمثلون وفد الحكومة الزائر إلى روما."*.

وبحساب بسيط يقارن بين مصاريف ادبيبة في جولاته المكوكية هو وفريقه وما خصصه من صكوك للزواج، فإن رحلات أدبيبة ومرافقيه ستكفي لزواج كل الشبان الليبيين بل ووضع مبالغ في حسابات الأطفال الذين لم يولدوا بعد لزواجهم مستقبلا .

ما يقلق أن هذه الصكوك لها أهداف سياسية وليست اجتماعية، وفي جميع الأحوال لو سلمنا حتى بجدواها غير الواردة، فإنه من المفترض أن يصدر فيها قرار أو قانون ينظمها من السلطة التشريعية، ولا يحق للجهات التنفيذية أن تخصم درهما من مواطن دون قانون، ولا أن تعطي هبات دون قانون.
لقد أمم وصادر القذافي أموال الليبيين الذي كدحوا زمنا من أجلها بدون وجه حق، وأعطاها لسماسرة الثورة دون تعب ودون وجه حق، وتصرف بهذا الشكل لأنه الحاكم الوحيد المتمثلة فيه كل السلطات، ولأن الشعب يشكل رعيته التي كثيرا ما كان يدغدغها بمثل هذه الهبات دون تشريع أو قانون، مثلما كان يلقي حزم الدولارات للأفارقة الفقراء الذين ينتظرون موكبه على جانب الطرقات.

ولنعد إلى مسألة نسبة الطلاق التي لم يتوقف عندها أي نوع من القلق الاجتماعي، وكأنها أمر طبيعي. أجرينا مرة استطلاعا في صحيفة الأفريقي وفي ظروف اقتصادية مشابهة لهذه الظروف، عن النسب اللافتة لظاهرة الطلاق وعن الأسباب، ومن خلال العينة تبين أن 80% من أسباب الطلاق أزمة السكن والدخل المحدود الذي لا يضمن للأسرة الناشئة الحد الأدنى من الرفاه والطمأنينة عن المستقبل. وما يهمنا أن أسباب النسبة العالية في الطلاق مازالت قائمة، بل وتزداد سوءا مع زيادة تكاليف الحياة المتوسطة وتراجع قيمة العملة، يستلزم هذا التضخم الذي حدث للعملة الليبية أن يكون الحد الأدنى للمرتب 2200 دينار، وفي هذه الحالة سيكون مرتب خريج الجامعة أكثر من 4000 آلاف دينار كحق طبيعي فرضه هبوط قيمة العملة الليبية، ولن يحتاج إلى صدقات من أي حكومة تستخدمها لأسباب دعائية (ابني المهندس عُيّن أخيرا بمرتب قدره 600 دينار ليبي لا تكفي لإيجار شقة صغيرة، بينما صبي حاصل على الإعدادية يتقاضى بانضمامه لإحدى الميليشيات المسلحة 2500 دينار شهريا) ولا تعليق .

من جانب آخر، بدأت تبرز ظاهرة عقد القران بالجملة في هذا الشهر بشكل جلي من أجل الحصول على الصدقة دون التفكير في مستقبل هذا القران (البعض علق أن القذافي سمى شهر سبتمبر شهر الفاتح، وادبيبة سيسميه شهر الفواتح) وبالطبع إذا ما تصورنا أنه قبل صكوك ادبيبة كان من الممكن ان تتم 10 ألاف حالة زواج سيترتب عنها وفق إحصائيات المحاكم والسجلات المدنية التي تحدد النسبة ب 70% من حالات الانفصال، سيترتب عنها 7 ألاف حالة طلاق. فإنه بعد الحماس النكاحي الذي أججته صكوك أدبيبة سنتوقع أن تزيد حالات الزواج إلى 70 ألف حالة وبالنسبة نفسها من الانفصال فستكون لدينا 70 ألف مطلق ومطلقة، لأن أسباب الانفصال قائمة وتزداد حدة مع زيادة الأسعار وأسعار مستلزمات الرضع والأطفال خصوصا، لذلك سيكون الأمر كارثة ومأساة لن تختلف عن كوارث ومآسي الحوادث على الطرقات المتهالكة التي زادت المطبات كحل مؤقت من خطورتها، وكلا المشكلتين يتم حلهما بالطريق السهل وهو إنشاء مطب أو توقيع صك على الطريق.

يتحول الشبان إلى متسولين في إحدى أغنى الدول، وتتحول الطرقات إلى محفل للمطبات، وبالتالي ليس غريبا أن يكون على كل مطب متسول أو متسولة في مشهد سيربط بين الحالتين.

أثناء كتابة هذه المقالة دعيت لعقد قران أقيم في أحد المساجد، وحين وصلت وجدت أن خمس حالات عقد قران كان تقام في هذا المسجد، والحشد داخله ينبئ بكارثة أخرى تتعلق بتفشي كورونا، أخبرني أحد الأصدقاء بأن معظم المساجد مزدحمة وأن أزمة برزت في قلة أعداد المأذونين الشرعيين. والسبب أن القرارات التي لا تدرس جيدا تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية قد تتحول إلى كوارث حتى وإن كانت بحسن نية.

* موقع 218 . "بالفواتير والأسماء.. 218 ترصد ملفات إهدار السلطة التنفيذية للمال العام" . 15 أغسطس 2021 .