Atwasat

مغبة الحلم والواقع

محمد عقيلة العمامي الإثنين 20 سبتمبر 2021, 09:47 صباحا
محمد عقيلة العمامي

يُعد الروائي الفرنسي (غوستاف فلوبير) أحد الكتاب الذين غلّبوا المذهب الواقعي على المذهب الرومانتيكي، مباشرة من بعد إصداره لرواياته، (مدام بوفاري) التي يعد تأثيرها مفصليا في مسيرة الرواية العالمية المعاصرة. الجدير بالذكر أنه من بعد صدورها استدعت الحكومة الفرنسية الكاتب واستجوبته بسبب، مثلما رأت "لا أخلاقية الرواية" وكاد أن يسجن !

الرواية تتناول حكاية فتاة عاطفية، هي (إيما بوفاري) حالمة بالحب والرومانسية جراء ما قرأته في شبابها من روايات، ولكنها من بعد زواجها من طبيب ريفي، اكتشفت أن الحياة معه مملة، لا علاقة لها بما تحلم به من حب وإثارة، فجنحت تبحث عن الإثارة التي قرأت عنها في الروايات، فانغمست في سلسلة من علاقات غير مشروعة لا تتناسب وحياة زوجة طبيعية مثلما تعارف المجتمع عليها، وتورطت جراء تهورها في فضائح، وديون وانتهى الأمر بموتها.

أفنى الكاتب خمس سنوات من عمره، يكتبها موظفا تفاصيل دقيقة لحياة الطبقة الوسطى، مؤسسا هجوما على قواعد خالية من المعني ومواقف تلك الطبقة العادية، مما جعل روايته عملا بارزا من أعمال الواقعية، مبرزا سعة خيال بطلة الرواية، وخلطها الواقع بالخيال. ونجح كثيرا في سرد أحداث حياتها، وموتها، مؤكدا على أنها انتحرت، إذ سُمعت تقول "لا تتهموا أحداً" قبل أن تتناول السم.

يقول الناقد "جاك رانسيير" الذي يعد أحد أهم الفلاسفة الأوربيين، وترتكز فلسفته، على التحرر من تسلط الفكر القديم، ويرفض التمييز بين "العالم والجاهل"، أو بمعني أدق بين "الذين يشرحون" و "الذين يستمعون إليهم" فهو يدعم بشدة فكرة مشاركة الجميع في ممارسة التدبر والتفكر.

ولعلكم تتساءلون سبب انتباهي، إن لم أقل اهتمامي بهذه الرواية، التي كُتبت سنة 1856 وكانت من الروايات التي قرأها كثيرون من جيلي، من بعد أن اتحفنا بترجمتها، ضمن سلسة أهم الروايات العالمية، الراحل منير البعلبلي، أحد أبرز التنويريين في ستينيات القرن الماضي. وهوكاتب ومترجم، وصاحب دار العلم للملايين، التي تأسست سنة 1945!

أقول لكم أن الحالة التي مرت بها بطلة الرواية (إيما بوفاري) التي وصفها المؤلف بأنها جنحت نحو مغامرات ماجنة بعيدة عن حرمة العلاقة الزوجية، فأنهكتها حد الموت؛ وهي أيضا التي فسرها الناقد "رانسيير" الذي أشرنا إليه، قائلا أنها نتجت عن ذلك "البون الشاسع بين الحياة التي حلمت بها، والتي استوحتها من الروايات التي قرأتها حيث ترعرعت في الدير، والحياة التي كان عليها أن تعيشها مع زوجها الطبيب الردئ في قرية ريفية بائسة. لقد خَلطتْ (إيما) بين غلو في تخيلها في الأدب، الذي يعد على نحو ما مجرد خيال، والحياة الواقعية، التي عاشتها مع زوجها في تلك القرية.

حال الشابات الأوربيات في القرن الثامن عشر يشبه إلى حد كبير حال (إيما بوفاري) يمرحن في مدارسهن، غالبا ما تكون أديرة تشرف عليها معلمات، هن في الواقع راهبات وهبن أنفسهن للرب، وللفضيلة، وتعليم الفتيات، اللواتي لم يكن لهن من متع سوى الخيال وقراءة الروايات والأشعار وعيشة الحلم، إذ لم تنفجر الثورة الجنسية، بفساتينها القصيرة ، في أوروبا، إلاّ بعد عشرين سنة من تاريخ إصدار رواية (إيما بوفاري).

لم يكن حينها حال الفتيات الأوربيات يختلف كثيرا عن فتياتنا هذه الأيام: أحلام بأحداث الروايات، خصوصا إن كانت عاطفية! وكثيرات حدث لهن ما حدت لإيما بوفاري، مرحلة شباب تأسست على أحداث روايات، ثم مسلسلات تلفزيونية، والقليل من الأفلام حتى سيطرة الشبكة العنكبوتية فلم تعد الأفلام ولا المعلومات قليلة، ولكن الأحلام الرومانسية لم تتغير، وإن تطورت واتسعت وظل تحقيقها مرهون بحظ الأنثى ودعاء والديها أن يكون نصيبها رجلا صالحا، فيما تتطلع وتبتهل أن يكون على مقاس أحلامها، عند كلامه المعسول قبل صباحيتها، و "تسنديرها"!.

كثيرات صدمن، وكثيرات منهن صبرن، وتكيفن مع واقع الحال. ولكن عديدات لم يتغلب الواقع على أحلامهن وانفجر صراع مرير مابين واقعهن وما تبقى من أحلامهن! ولكن هذه الأحلام تصبح ماردا جبارا، أرغم بعضهن وغلبهن، خصوصا إن ابتعدنا عن مدنهن وقراهن ، فيرى المرء مسخا من فتاة كانت يوما ما حالمة رقيقة، وأصبحت مجرد جسد واللون صبغت الوجه، وشفايف منفوخة، وأهداب كمظلات المحلات، وتبغ ينفث بابتذال وقلة خبرة. ولا يستغرب المرء أبدا إن انتهى أمرها بسطر يجدونه بجوار سريرها يقول: "لا تتهموا أحداً .