Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (1) (1908_1969)

سالم الكبتي الأربعاء 15 سبتمبر 2021, 09:11 صباحا
سالم الكبتي

مرت ليبيا قبل إعلان استقلالها في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 بفترة بعيدة بتجارب نيابية مختلفة ومتعددة بدأت أولاها في أواخر العهد التركي عندما جرى العمل بدستور عام 1908. الذي عرف بإعلان الحرية أو بـ (تعميم حريت). كان عطله وأوقف العمل به السلطان عبدالحميد الثاني. وقد نشأ عن عودة ذلك الدستور إلى الحياة تكوين البرلمان أو مجلس المبعوثان في إسطنبول شارك في عضويته مندوبون مثلوا الولايات التابعة للدولة العثمانية المترامية الأطراف.. هنا وهناك.

في (ليبيا) تم اختيار نواب عن بنغازي وطرابلس وفزان من بينهم: عمر منصور الكيخيا ويوسف بن شتوان وسليمان الباروني ومحمد فرحات الزاوي ومصطفى بن قدارة وعبد القادر جامي. كان حضور هؤلاء النواب واضحا في معظم جلسات المبعوثان التي في الواقع لم يدم أجلها طويلا وأثاروا خلالها، وفقا للمحاضر التي نشرت، العديد من القضايا المحلية وشؤون الولاية في النواحي التعليمية والصحية وأمن الحدود والقوافل وخطوط المواصلات والهواتف وغيرها. لكن ظلت هذه التجربة البرلمانية الأولى في حياة ليبيا والليبيين السياسية تلوح صغيرة مثل الوشم في ظاهر اليد. إنها سرعان ماتوقفت بمجرد سماع دوي مدافع الاحتلال الإيطالي عبر الشواطئ الليبية أواخر العام 1911 فيما تفرغ الليبيون في مناطقهم كافة للقتال والمقاومة.

وكانت التجربة البرلمانية الثانية في فترات أعوام ذلك الاحتلال عندما وضعت إيطاليا قوانين أساسية (دساتير) وأصدرتها في برقة وطرابلس خلال الفترة السلمية التي توقفت فيها المقاومة ضدها.. إلى حين (1916_1923) فيما ظلت فزان بعيدة خلف تلال الصحراء عن هذا الذي يجري قرب ضفاف الساحل. ونشأ عن هذه التجربة قيام مجلس نواب برقة في إبريل 1921 بعد انتخابات في المدن واختيارات بين القبائل في الداخل. الكثيرون اعتبروا هذا المجلس أول برلمان نيابي عربي بمقاييس تلك الأيام. وفي طرابلس لم يحدث تأسيس أي مجلس مماثل رغم الوعود الإيطالية وصدور القانون الأساسي وكان ثمة مجلس شورى يتبع (الجمهورية الطرابلسية) التي تكونت في جامع المجابرة بمسلاتة عام 1918.

والواقع أن الفترة السلمية التي سادت برقة والتي تظل تحتاج إلى المزيد من العناية العلمية والدراسة المنهجية الجادة.. أنتجت مع وجود السيد إدريس السنوسي أميرا معترفا به يدير حكومة إجدابيا التي تشكلت برئاسته عام 1917.. شكلا واضحا وجديدا من التعامل السياسي الجديد الذي تعلم عبره السكان المحليون الانتخابات لأول مرة في تاريخ ليبيا في مدينتي بنغازي ودرنة فيما تم الاختيار في مناطق القبائل في البطنان والواحات والمرج والجبل بالطريق المباشر دون انتخاب. وقد ضم المجلس المذكور عقب الانتخاب والاختيار خمسين عضوا من المدن والدواخل وبعضهم مثل الإيطاليين والأقلية اليهودية. وعقد جلساته في مدينة بنغازي في أحد المباني الفخمة الذي أنشئ خصيصا لهذا الغرض ثم أضحى لاحقا مقرا للحزب الفاشستي وجرت فيه محاكمة عمر المختار بعد أسره في الجبل الأخضر في الحادي عشر من سبتمبر 1931. هذا المبنى دمر تماما في القصف الذي شهدته بنغازي في الحرب العالمية الثانية. وأعيد إعماره بعد الاستقلال وصار مقرا للمجلس التشريعي في ولاية برقة وبعد إلغاء النظام الفيدرالي عام 1963 ألحق المبنى بالجامعة الليبية وظل يحتوي مكتبتها العامة إلى العام 1974.

شهد مجلس نواب برقة فترتين نيابتين من 1921 إلى 1923 وترأسه السيد صفي الدين السنوسي ثم من 1924 إلى 1926 برئاسة الحاج أحمد مفتاح البناني أحد نواب درنة وأعيانها.

وخلال الفترتين المذكورتين ضبطت جلسات المجلس بلوائح داخلية ونظم وجداول أعمال وضبطت جلساته بمحاضر رسمية. وعرف النواب هنا معنى (الاستجواب) و (المداولة) و (الطعون) و (التصويت) وسواها من مصطلحات برلمانية معروفة.

إن هذه التجربة التي إاتبرها أبناء البلاد (محاولة وطنية) لمواجهة العدو الذي يحتلهم بأساليبه الديمقراطية والبرلمانية كما يدعي أمام العالم.. تعثرت كثيرا وأصابها العطب حين استولى الفاشيون بقيادة موسوليني النائب القديم في البرلمان الإيطالي الذي اعترض ورفض غزو ليبيا.. على السلطة في روما مع رفاقه ذوي الأحذية والقمصان السوداء أواخر عام 1922.

حاول الإيطاليون بلا هوادة في هذه الفترة ذات القبضة الحديدية والديكتاتورية الفاشية أن يجعلوا مجلس النواب يسير في ركابهم وأن يكون صوتا بلا كلام أو رجعا للصدى. وظلت أغلب جلساته تناصب العداء الواضح للأمير إدريس الذي اختار الهجرة إلى مصر عام 1923 بعد أن نكث الفاشيون بالوعود والمواثيق والاتفاقات التي سبقت مجيئهم إلى السلطة الأمر الذي لم يتمكن معه أغلب النواب من تحقيق أي شئ يذكر باتجاه إنجاح (المحاولة الوطنية) نتيجة لخداع السلطات الإيطالية لهم. وفي صفحات جريدة بريد برقة الصادرة في بنغازي تلك الأيام المزيد من تفاصيل مضابط تلك الجلسات ومايدور فيها وحالات العداء الواضحة وخطاب الكراهية الذي تديره إيطاليا وتضخه نحو الليبيين المتواجدين في الأقطار المجاورة وتتوعدهم بالفناء. وبهذا خبا ضياء المجلس وانطفأ في جنبات بنغازي الضيقة وتوقف تماما في نهاية المطاف.

ومن الملاحظ بعد هذه الفترة أن عمر المختار الذي ظل رمزا للمقاومة كان من ضمن شروطه التي أصر عليها ونادى بها في مفاوضاته المعروفة مع الجانب الإيطالي في اجتماع سيدي إرحومة قرب المرج في يونيو 1929: تكوين جمعية وطنية تقوم بسن دستور للبلاد ينشأ عنها مجلس نيابي وحكومة تدير الشؤون. غير أن الإيطاليين كعادتهم المزمنة ولوا ظهورهم للرجل الذي استمر ورفاقه في مقاومتهم ولم يأبهوا لتلك المطالب والشروط. وكانت غايتهم من كل ذلك في الواقع كسب الوقت للقضاء على جذوة المقاومة الوطنية ورموزها. إن الديكتاتورية والديمقراطية في كل زمن لاتلتقيان. وكانت مطالب وشروط عمر المختار وزعت ونشرت في عديد الصحف في العالمين العربي والإسلامي إحراجا لإيطاليا وتعريتها أمام رأيهما العام.

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في ليبيا عام 1943 وقيام سلطات الإدارتين البريطانية والفرنسية بإدارة الأمور في الأقاليم الليبية الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان وعودة أغلب المهاجرين الليبيين إلى بلادهم.. حدث حراك سياسي كبير نشط فيه جميع المواطنين على اختلاف مستوياتهم خلال أعوام الأربعينيات الماضية تلمسا لطريق طويل وشاق يفضي بهم إلى الاستقلال والحرية فصدرت الصحف وتكونت الأندية الثقافية والأحزاب والجماعات السياسية في بنغازي ودرنة وطرابلس وغيرها وأنشطة أخرى مماثلة إلى حد متواضع في فزان البعيدة.

في برقة تحديدا كان يرعى هذه الأنشطة ولو من بعيد الأمير إدريس نفسه الذي أعلن استقلال برقة في أول يونيو 1949 وكان ذلك في الحقيقة تمهيدا (ضاغطا) لإعلان استقلال البلاد بالكامل وأدى ذلك إلى تكوين حكومات محلية ترأس إحداها عمر الكيخيا الذي كان صاحب تجربة سياسية في الأصل ومستشارا للأمير في حكومة إجدابيا وقبلها نائبا عن بنغازي في المبعوثان التركي إضافة إلى صياغة للدستور الذي أعلن عن صدوره في سبتمبر 1949.

وفي طرابلس نشطت بقوة كل الجماعات وفي مقدمتها حزب المؤتمر. واختيرت حكومة محلية أدارت الأمور هناك برئاسة السيد محمود المنتصر. وفي فزان انتخب السيد حمد سيف النصر لإدارة حكومتها. خطوط تقاطعت ثم التقت فيما بعد باتجاه الوطن الواحد بمزيد من الجهود مع الكثير من المشاق وتقطع الأنفاس في بعض الأحيان.
تلك الخطوات المتسارعة ذلك العام بلغت مداها بتشكيل مجلس للنواب في مايو 1950 ضم خمسين نائبا وصلوا إلى مقاعده بالانتخاب في المناطق الحضرية والقبلية في برقة. وكانت تجربة برلمانية جديدة أخرى بعد ظلام الاحتلال الإيطالي وأنجزت بعدة خطوات وإجراءات سنتابعها لاحقا.

يتبع ....