Atwasat

بلاد يلهث فيها الشعر

سالم العوكلي الثلاثاء 14 سبتمبر 2021, 10:15 صباحا
سالم العوكلي

في مصعد زجاجي، صعدتُ ناطحة سحاب في سنغافورا، فرأيت حدود الدولة كلها، وطن برمته تستطيع أن تجمعه في إطلالة واحدة، وتدور حوله في قارب في نصف نهار أو أقل، وهناك يصبح كل شيء كثيفا، وتغدو دولة أقل من مساحة أصغر بلدية في ليبيا إحدى أفضل عشرة اقتصادات في العالم، تتواصل فيها الفنون كاحتفال في حديقة، ويروي معمارها المتنوع تاريخا متصلا.

نعيش في قارة مترامية الحدود، تجعل المسافات بيننا شاسعة ووعرة وقائظة، يفتر الحوار بين ما نكتب وما نقرأ، ولا أحد يلتفت إلى الجوار، فكلٌ يغني على ليلاه، وكل يحدق في برق بعيد يلهث صوبه. فكرت كثيرا في كتابة تاريخ للشعر الليبي، لأن لكل فن تاريخا في محيطه يبحث عن موقع قلم في تاريخ الإبداع الإنساني، لكن كان من الصعوبة العثور على تراكم زمني يجعل كتابة التاريخ ممكنة، لم يكن الفن الليبي عموما تائها في التاريخ ولكنه كان ضائعا في الجغرافيا أيضا. أثيرت أسئلة مهمة في النصف الثاني من القرن العشرين من قبل كتاب كانوا معنيين بفكرة التواصل مع الأجيال القادمة، لكن كل جيل يحاول أن يبدأ من نقطة ليست على السطر، وتُهمل تلك الأسئلة التي من شأنها أن تشيد تاريخا متصلا للفن والهوية.

"في هاتين العبارتين: تاريخ ألمانيا، تاريخ فرنسا، يختلف المضاف إليه بينما يحتفظ مفهوم التاريخ بالمعنى ذاته. وفي عبارات: تاريخ الإنسانية، تاريخ التقنية، تاريخ العلم، تاريخ هذا الفن أو ذاك، ليس المضاف إليه هو فقط المختلف، بل حتى كلمة (تاريخ) تعني كل مرة شيئا مختلفا" كما يقول كونديرا في صدد تمهيده لسرد تاريخ الرواية الأوربية، بينما يقول الألمعي جوليان جراك "تاريخ الأدب، على العكس من التاريخ فقط، يجب أن لا يتضمن إلا أسماء الانتصارات، ما دامت الهزائم فيه ليست انتصارا لأحد"، كي يحدد الحاجز الفاصل بين التاريخ السياسي وبين تاريخ الروح، وحيث أن تاريخ الأدب "على العكس من التاريخ فقط" ليس تاريخ أحداث بل تاريخ قيم. ولأن الهوية لا تصنعها السياسة ولا الحروب ولا الأحداث الكبرى فقط، حاولتُ كتابة تاريخ للشعر مبتدئا من السؤال المبكر والمقلق للناقد خليفة التليسي "هل لدينا شعراء" لكني أخفقت كمن يبحث عن إبرة في كومة رمال، أو كمن يحاول أن يجمع خيوط حرير من غابة شوك، وفي السياق نفسه تبدت الهوية كهلام كلما حاولت لمسها.

وحاولت مرارا أن أتواصل مع كتاب يكتبون في الأثناء، وأحيانا في الموقع نفسه، أجادل وأعلق على مقالاتهم ، ولا أحد يرد أو يجادل، وكأني أعلق على أفكار سقراط أو أي كاتب قضى نحبه من القرن الثامن عشر، باستثناء الكاتب عمر الككلي لا أحد يلتفت أو يحاور، وكل يغني على ليبياه، وكل محكوم بمونولوج لا يحب أن يشوش عليه أحد، أو ما يسمى في علم النفس "تيار اللاوعي" الذي يحكم الكثير من الكتابات التي تتوهم أنها موصولة بالوعي. لذلك تفشت لدينا ظاهرة العزف المنفرد في كل شيء، من التأريخ إلى السياسة وصولا إلى الفكر والنثر الأدبي والشعر، مثل رعاة يعزفون على المزامير في خلاء لا توجد فيه حتى وديان ترد الصدى. لا نعرف كيف حتى أن نُكون جماعات أو مجموعات تهتم بفنها أو اختصاصها، أو تصدر بياناتها عن رؤى لفنها أو مستقبله أو جدوى مغامرته. لذلك في هذه الأرض الشاسعة التي لا يحيط بها مصعد ولا حتى قمر صناعي واحد، يتحول كل مجال إلى صحراء قاحلة تتخللها الواحات المعزولة بالقحط أو الشجيرات المتناثرة، فنتوه في تاريخنا الخاص مثلما نتوه في الجغرافيا.

لا تاريخ يمكن تسجيله لعمل نقابي متصل في ليبيا ولا منظمات مدنية لها تاريخ، ولا أحزاب استمرت حتى في المنفى، سرعان ما يتبعثر أي تجمع، حتى المسارح التي بطبيعتها تستلزم عمل الفريق لا تراكم تاريخا، لأننا لم نتمرن على أسلوب الفرق الذي أوجده المصنع، وأبرز عمل جماعي شيوعا في تراثنا، نسميه (الرغاطة) التي سرعان ما تتفرق جماعتها بعد إنهاء المهمة المؤقتة.

قد يكون استرسالي فيه نوع من التعميم، وليس بمنجى عن التقويض أو التشكيك فيه حين يكون الحوار ممكنا، لكن فلننظر إلى الفجوات الكبيرة في سرد تاريخنا، وفي الأداء النقدي الذي لم يستطع كتابة قصة لأي فن أو ضرب من الإبداع، ولنتوقف عند الملفات أو الندوات التي أقيمت حول مسألة الهوية ونرى مدى الارتباك والقلق والضباب الذي يعتريها، ولنتأمل في هذا الوطن الذي تهترئ فيها كل البنى التحتية للتواصل والمواصلات، فلا طرق سلسلة ولا سكة حديد ولا مطارات تحترم مواعيدها ولا نقل بحريا في ساحل يتجمع عليه أكثر من ثلثي السكان، أرهقتنا المسافات الجافة، وأرهقتنا البدايات الصفرية والقفز في الظلام، وأرهقتنا مراحل هذا الوطن التي لا صلة بينها، كل مرحلة تصر على أن تمحو ما قبلها وتبدأ من المربع الأول، وأرهقتنا. أرهقتنا المطبات المتناسلة على الطرق، بل والمتكاثرة في كل دروب مسارات البلد إلى المستقبل، السياسية والثقافية والاقتصادية، وأرهقتنا مناهج الجغرافيا التي تتحدث عن مناخات مختلفة في أرضنا القارة التي طالما أديرت من مكتب واحد وبمزاج واحد، وأرهقتنا مناهج التاريخ التي لا تحكي سوى عن المعارك والملاطم والانتصارات والهزائم، ولا تاريخ لدينا للقيم، حيث الفن وحده من يكتب تاريخها.

كأننا ضيوف عابرون في هذا الوطن لا نحدق إلا في ما نراه ونستهلكه، ولا يهمنا إلا ما نلمسه ثم نختلسه، على موعد دائم مع الرحيل. نرحل أو نترحل من تصور إلى تصور، ومن قانون إلى قانون، ومن لافتة إلى لافتة، ومن شعار إلى شعار، ومن إعلان إلى إعلان فلا تزدهر إلا تجارة الورق والقرطاسية وصناعة الأختام. من إعلان سلطة الشعب إلى إعلان دستوري ترحلنا دون أن نغادر مكاننا، نسير ونلهث دون ان نتقدم وكأننا على سير متحرك في صالة رياضية.

نعيش المفارقة الوجودية لأي محتوى بشري صغير يتوه في المساحة، أمة صغيرة في أرض واسعة مثل عائلة صغيرة في قصر ضخم لا يلتقي أفرادها إلا مصادفة في ردهاته، لكن ما يميز الأمم الصغيرة عن الكبيرة، كما يفكر كونديرا في كتابه الشيق (الستارة)، ليس المعيار الكمي لعدد سكانها فقط، "بل شيء آخر أعمق: وجودها ليس يقينا بدهيا بالنسبة لها، إنما هو دوما مسألة خلافية ورهان ومخاطرة. إنها متأهبة للدفاع ضد التاريخ، هذه القوة التي تتخطاها ولا تأخذها بعين الاعتبار، بل لا تراها". وفي مثل هكذا ارتياب وجودي تقع الفنون، وفنون الكتابة خاصة، في قبضة الفزع من الزوال، إبراهيم الكوني مثلا، أو قلق يتعلق بالهوية، عبد الله القويري ويوسف القويري، أو خوف من الذوبان وتلاشي الملامح في سياق آخر، سعيد المحروق، أو نزوح إلى الضفاف الأخرى، والأمثلة كثيرة.

تزرع الأمة الصغيرة في كاتبها يقينا بأنه لا ينتمي إلا لها، فيتحول الأدب إلى واقعة تعزز تاريخ الأحداث وشرعية الكيان، أو إلى قضية شعب وليس قضية تاريخ أدبي يسرد قصته على أرض لا يتهدد وجودها، وتغدو كل توطئة لكاتب ليبي ـ يُعرف به في ثقافة أخرى ــ بيانا سياسيا عن وطنه وطبيعة نظامه السياسي، يحجم أفقه الإنساني ويلحقه بالوقائع الإخبارية المؤقته لأمته الصغيرة (أزعج هذا القاص عمر الككلي حين تُرجم أحد نصوصه ونشر في مجلة عالمية).

نحاول أن نشق طريقنا في هذا العالم المتشابك وأن نصنع تاريخنا دون تدخل، لكن، دائما، هناك الأمم الجالسة في قاعات المؤتمرات "وتلك التي تنتظر طوال الليل في الردهة". ولسوء الحظ هذا التوصيف ينطبق على بلدي الآن، ودائما عبر تاريخ وجودها المهدد كانت ترسم لها البدايات اجتماعات لا تشارك فيها، كمريضة تنتظر نتائج فحوصها في ممر أمام المختبر.