Atwasat

الأصفر؛ السهل والممتنع

محمد عقيلة العمامي الإثنين 13 سبتمبر 2021, 10:51 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قال الفيلسوف الإنجليزي (برتراند رسل): "عندما أريد الكتابة، أعود إلى الكتب والأساطير القديمة، وأستمتع بها، حريصا ألاّ أكتب مثلها، وألاّ أكون غامضا مثلها!". أما أنا فأجد غالبا، ما يعينني على كتابة مواضيعي، من قراءاتي سواء أكانت بذرته في عقلي، أو أن أجدها عندما أبحث عما يفيد هذه البذرة.

البذرة كانت لسؤال قديم لطالما راودني عن أسباب النجاح السريع والمتواصل الذي حققه الروائي محمد الأصفر، فأنا من حسن حظي أنني متابع من البداية لمسيرته، منذ قصته القصيرة "حكاية جورب" التي كتبها منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكنت قد قلت من قبل أن الأديب الراحل خليفة الفاخري بشر من البداية بتميزه، وقال: "هذا كاتب جيد للغاية، وأرى له شأنا في مسيرته.." وتعددت رواياته وترجمت إلى عدد من اللغات، وتابعت قراءتها وأحس دائما أنه يجيد ما يقوله، ويقدمه للمتلقي بوضوح، وبساطة وطرافة، وكثيرا ما تساءل عقلي عن سر هذا القبول والنجاح، فما أن أشرع في قراءة عمل له حتى يأسرني حتى أنتهي منه. ولم أجد تفسيرا مقنعا، فالروايات الليبية كثيرة، وجيدة حيث الوصف والحبكة، وفوق ذلك ما يريد كتابنا إيصاله، ويصلنا بمتعة ولكن يصعب أن نجد ذلك التميز الذي تفرد به الروائي محمد الأصفر.

من أيام قرأت مقالتين، واحدة عن التأليف والثانية عن الأسلوب كتبهما الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور، المعروف بفلسفته التشاؤمية، فما يراه بالحياة ما هو إلا شر مطلق، وجعل فلسفته المثالية تلك التي يربط فيها العلاقة بين الإرادة والعقل، فيرى أن العقل أداة بيد الإرادة وتابع لها. يقول في مقالة الأسلوب، وهي مقالة طويلة، ولكنني سأنتقي منها ما يبرز وجهة نظري في ما تفرد به الروائي محمد الأصفر. يقول شوبنهاور: "التكلف في الأسلوب أشبه ما يكون بالتلاعب بملامح الوجه... والجهد الذي يبذله ذلك الكاتب يدرك في قرارة نفسه، حقيقة ما أقول.. والذي أعنيه أن أولئك الكتاب الدارجين عاجزون العجز كله عن أن يعقدوا العزم على الكتابة بما يفكرون فيه لأنهم يدركون أنهم لو فعلوا ذلك، فإن أعمالهم قد تبدو صبيانية ساذجة، ولا يخطر لهم أنها مع ذلك قد لا تكون عديمة القيمة.

فأمثال أولئك الكتاب لو وجدوا في أنفسهم القدرة على الإقبال على العمل بصدق وأمانة، فيقولون، ببساطة، ما يدور بأذهانهم من أفكار، بالطريقة نفسها التي يتنكرون بها، فإنهم حريون أن يكونوا جديرين بالقراءة، بل يصبحون في نطاق مجالاتهم الخاصة ذوي جدوى ومنفعة للقارئ. إلاّ أنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك، يجهدون في إقناع القارئ أن أفكارهم أعمق وأبعد مدى مما هي عليه في حقيقته.

فيقولون ما يرغبون في قوله في عبارات مطولة تتلوى هنا وهناك بطريقة مفتعلة غير طبيعية، ويصوغون كلمات جديدة ويدبجون جملا مفرطة في الطول تدور وتدور حول الفكرة حتى تغبقها، وتضفى عليها غموضا أشبه بالتخفي.. "

الأصفر بعيد عن الدور واللف والتفلسف، وانتقاء الكلمات الغريبة أو نادرة التداول. أسلوبه مباشر وبسيط يقوله بأبسط الكلمات وأسهلها وأقصر الجمل وأبلغها مستخدما ما هو متداول فيصل إليك المعنى بسير سهل، كما يتراءى للقاريء ولكنه ممتنع بسبب قدرته على التبسيط والإيضاح. أمامي، الآن، روايته "علبة السعادة" دعونا نفتح عشوائيا أية صفحة، وننتقي منها فقرة، ها قد فتحنا الصفحة رقم (7) نترك الفقرة الأولى لأنها تتمة للفقرة السابقة من صفحة (6). تقول الفقرة:

"حقيقة عندما أذهب بالقفة لسوق الفندق البلدي أختار ثمرات الطماطم السليمة وربطات النعناع والكسبر والبقدونس والشبت الطرية، التي أحرص على شمها أولا؛ إن كانت عديمة الرائحة لا أشتريها، حشائش البراك والمحشي والشربة والحساء لا معنى لها إن فقدت عطرها، أما قرون الفلفل الحار والجزر والفجل أكسرها من أسفل أولا، إن انكسرت بسهولة وفرقعت معناها طازجة وهو المطلوب إثباته، كما يقول معلم الرياضيات.

كان الباعة هناك يعرفونني وينزعجون مني، لأني لا أملأ الكيس عشوائيا وأنتقي ببطء وبتركيز وبقصد أفضل ما عندهم من خضروات وفواكه... كل الخضروات والفواكه التي أجلبها ستراها غزالة التي تعجبني جدا، وحتما ستسجل في ذاكرتها وتقول عني: "يا ناعليا منا وخلاص، حتى في شراء الخضرة شاطر، وكذلك أحب أن أسمع من عمتي سالمين، وأنا أسلمها القفة عبارات حلوة مثل: "جاك الجود، وعليك حجاب".

سرد مباشر وبسيط. جمل قصيرة ومعان متداولة وسهلة ولكنها ممتنعة. هكذا يتواصل سرد الأصفر وبين الأسطر إشارات لما سوف يشكل الحكاية فيما بعد، ويربط ما بين مواقفها لنصل في النهاية إلى ما يريد أن يقوله. هذه البساطة، في الجمل والكلمات والمعاني، التي تصل بنا دائما إلى لب الحكاية ومغزاها، التي لا تكون في الغالب ببساطة الأسلوب.