Atwasat

الصوفي.. والإنسان ورعاة البقر!!

سالم الكبتي الأربعاء 08 سبتمبر 2021, 11:11 صباحا
سالم الكبتي

(إن مملكتي ليست من هذا العالم)
عبدالباسط الصوفي

في أحد أيام سبتمبر 1960 وصل عبدالباسط الصوفي الشاعر السوري إلى بلاده عبر البحر في تابوت مغلق بعد أن انتحر في ظروف مأساوية قبل أربعة أشهر في غينيا حيث كان يعمل معلما هناك ضمن البعثة التي أرسلت للعمل في تلك البلاد أيام الوحدة المصرية السورية .

وفي مارس 1961 بعد أشهر قليلة من رحيله الكبير والمفجع صدر ديوانه الوحيد (أبيات ريفية) في بيروت عن دار الآداب. أشرف على إصداره الشعراء: نزار قباني وبدر شاكر السياب وخليل حاوي. وشكل صدوره انتصارا لقضية الشعر العربي المعاصر في تلك الأعوام وكان أيضا صوتا ممتازا من أصوات الحداثة والتجديد.

ستون عاما مضت على الغياب وصدور الديوان. كان الصوفي شاعرا حقيقيا انطفأ قبل أن ينال المزيد من التوهج. حياته القصيرة منذ عام 1931 وحتى يوم انتحاره بعد آلام نفسية حادة ظلت تنتابه وحيدا في غربته الأفريقية ولم يستطع التوافق معها.. حياته كانت قصيدة وحدها تمتليء بالإبداع والاحتراق والمعاناة .

ولد في حمص وسط عائلة جذورها تمتد سيرة رجالها إلى أبي الخير الصوفي. وصار معلما في مناطق مختلفة مجاورة لحمص وانتهج خطا شعريا التزم قضايا الإنسان في وطنه وخارجه. حمص التي لاتبتعد عن حماة وحلب. السهوب والتلال ونهر العاصي ومعرة النعمان وخالد بن الوليد والمتنبي وأبي فراس الحمداني.. شهدت شعراء آخرين في الفترة نفسها: ناديم محمد وعبدالسلام عيون السود ووصفي قرنفلي وناصوح فاخوري وغيرهم. أسماء لشعراء لم ينل أغلبهم فرصتهم كاملة ولايعرفها الجيل العربي المعاصر في أغلبه ولم يتواصل مع عطأئها. نتاجها الشعري توقف عنده النقاد ولم يستمر في المزيد من البحث والدراسة فيه وإجلاء صدأ النسيان عنه. وأبعد كثيرا عن المناهج المدرسية التقليدية الجافة في معاهد العروبة ومدارسها على امتداد الخليج الثائر وإلى المحيط الهادر.. سابقا!

خلال وجوده في غينيا عاش تجربة عبر التراث الأفريقي واستفاد منه. تأثر بالفلكلور والفن وحياة الإنسان في الغابة وتحرر غينيا التي استقلت قريبا في تلك الأيام عن الاستعمار الفرنسي وقادها سيكتوري وحزبه وصارت في صدارة عناوين النضال الأفريقي لنيل الحرية. وظهر هذا التأثر واضحا عند الصوفي من خلال قصائده الشهيرة: مكادي والطبول وثيرانك والحصاد. تقنع بأسطورة مكادي حلم العبيد بالانعتاق والوصول إلى (الجزر الراقدة والنبعة الباردة). كانت هذه القصائد في الواقع من أشهر قصائده وأطولها، فهي في جانبها الآخر تعتبر موضوعا شعريا واحدا وملحمة ضاجة بالرؤى والصور والأبعاد الرائعة. في قصيدة مكادي صراع مع المجهول بدا عبرها الصوفي وكأنه يتحدث عن نفسه وتجربته وأحزانه وسيرته ووحدته وعزلته في لابي بغينيا. القاريء في بعض الأحيان يشعر أنه يرثي شخصه. وإضافة إلى الحزن الإنساني الكثيف والتطلع فإنها تحمل قوة في اللحظة نفسها وإصرارا على الحياة ومواجهة كل مايعيق وجود الإنسان ونضاله. إنها لوحة تتراقص فيها العبارات وتجسد عشق الإنسان وكفاحه وعطاءه الدؤوب عبر المدى. إنها ضد الموت ومع الحياة على الدوام.

وقصيدة مهمة نظمها الصوفي تلك الفترة ظلت حية على الدوام في صدور من عرف قيمته الفنية وروعة شعره. إنها قصيدة (رعاة البقر).

خاطب فيها ضمير أمريكا الذي لم يصح بعد رغم الكثير من التجارب التي خاضتها وغاصت فيها. إنه يعري وجهها الآخر القائم على الغطرسة والعنصرية والحقد والدم. سياسة راعي البقر في الشاشة لاتختلف عنها في البيت الأبيض أو في المخابرات المركزية. العنجهية والصلف والتعجرف وقهر بني البشر، لازمة لم تتخلص منها الولايات المتحدة حتى يعود إليها عقلها واتزانها. فيما يظل إنسانها الأمريكي رغم الدعاية في المكاتب والصحف وعبر العالم يدفع الثمن نظير هذه المهازل دون أن ترتدع أو تراوح مكانها ولو قليلا.

والقضية قديمة ومتجددة. قضية مواجهة الظلم والعسف لدى الإنسان والفنان فقد ظلت أمريكا رغم تقدمها الهائل في كل المجالات غبية في تصرفاتها وتدخلاتها وإدارتها لشؤون العالم. لاتتورع عن فعل أي شيء في سبيل مصالحها. فهي العالم نفسه. وهي الأمم المتحدة. وهي راعي البقر الذي يدخل الحانات ويفرغ طلقات بندقيته نحو الأبرياء. وهي التي تمسك بخيوط اللعبة وتحرك العملاء. وهي التي تفصل الدنيا على مقاسها. وهي التي يبقى معظم رؤسائها يمتلئون بعجرفة ثقافة رعاة البقر دون توقف.

يقول الصوفي في قصيدته المتجددة عبر الأعوام منذ 1960:
(بالرعب والويسكي وظل الموت ينتفض الرجال
وتدق أجراس الصلاة
وتغص حانات الرعاة
هذا الذي نبذته وديان وأوته جبال
ماذا يريد؟ جواده. قيثاره. لايعرفان
جوني نداء مبهم
جوني الجريمة والدم.
حقد بهيمي الصراخ وضحكة ومسدسان
قذفته شيكاغو إلى الدنيا خرافة عنفوان
دولاره صك الخيانة
وسفينه من ألف حانه
جوني يسير إلى الشعوب بظل رايات أجيره
وبكل أرض قصة عنه وأخبار كثيرة)

إلى آخر القصيدة والصورة تتداعى لراعي البقر الذي يمثله جوني النموذج الواضح للقهر وعبودية الآخرين. صورة راعي البقر بقبعته وحذائه الطويل ومسدسه التي تظل ماثلة للأعين. هي مثال صارخ لأمريكا إلى اليوم في جنونها وعظمتها وقدرتها على الشر أكثر من قدرتها على الخير.

أمريكا في صورها الذليلة المهانة في فيتنام وفي أفغانستان وانحيازها ضد العدالة في فلسطين وكل قضايا الإنسان. تصرخ بحقوق الإنسان طوال النهار وتضرب بحذائها تلك الحقوق في لحظة واحدة. إن أقرب مثال على ذلك هو سرحان بشارة سرحان الفلسطيني الذي طالته ظلما تهمة قتل روبرت كندي في يونيو 1968. وحكم عليه بالإعدام ثم خفف إلى المؤبد وقضى في معتقله بصحراء كاليفورنيا مايزيد عن خمسين عاما وظهر أنه ليس القاتل. وهناك أشاروا إلى أن ثمة خطأ ما حدث تجاه سرحان بما في ذلك أبناء القتيل. خطأ بعد نصف قرن. فماذا لو حدث ذلك في دولة أخرى؟

وربما أخذنا هذا التداعي بعيدا عن الصوفي الذي غفل عنه القراء والنقاد في هذا الزمن لكن الإشارة تجدر بأنه إضافة إلى رصيده الشعري له تجربة أدبية أخرى مهمة تتمثل في كتابته للرواية والعديد من الرسائل إلى صديقته التي كانت تنتظر عودته والزواج منه وإلى العديد من أصدقائه يبين فيها معاناته وعزلته المستمرة ويسخر سخرية شديدة من أجواء الثقافة الرسمية التي تسود المنطقة وأدبائها وأدعيائها وحكاياتهم فوق كراسي المقاهي ووشاياتهم دون عطاء حقيقي. ينظر إلى هؤلاء بتقزز ويصفهم وصفا يليق بهم. تلك الأجواء المتواصلة إلى اليوم التي ترفع من شأن الأدعياء والتافهين وتحط من قدر الرواد الكبار المبدعين مثل الصوفي. إن هؤلاء لم يتغيروا ولن يتغيروا. إنهم يتمددون في أجيال أخرى ويصيبونها بالبرص. يتصدرون المشهد والألقاب وينتهزون الفرص ويتبادلون الأدوار أمام أسيادهم فيما تظل الأصوات الحقيقية الشجاعة الموجودة مبعدة عن الزمان والمكان.

في شعر الصوفي يتلازم الإيمان بروح الإنسان وقضية الشعر والرؤية الشجاعة لنضاله والإشادة به وعدم التفريط في إنجازاته المتلاحقة في وجه العسف الناهض كل لحظة وفي كل مكان. يتلازم الشعر في وجه أمريكا الذي مايزال كما تركه الصوفي لم يتبدل مع صرخاته بالحب والتطلع إلى الجميل في الحياة. مع الوجه الكريه في الحياة الذين يتصدرون مواقع مداولة الشؤون في العالم وساحات الفكر والثقافة.

ويكفي فقط أن الشعر الحقيقي يبقى على الدوام شهادة إدانة لهم على مدى الزمن الطويل ولايستطيع إسكاته أحد!! ايستطيع إسكاته أحد!!