Atwasat

اتهام الماضي حُكمٌ على المستقبل

سالم العوكلي الثلاثاء 07 سبتمبر 2021, 02:05 صباحا
سالم العوكلي

رغم تذييل الكاتب عمر الككلي مقالته برابط مقالة الهادي بوحمرة بعد إشارة (انظر إلى) إلا أنني في الواقع لم أنظر للمقالة المذكورة، والسبب أن من طبيعتي لا أستمر في الميل إلى قراءة الكتابات التي تهيمن عليها غنائية الصوت الواحد أو المونولوج، والمنطلقة من إثبات فكرة مسبقة لا يأتيها الباطل من أي جهة، متوجسا من طبيعة هذا الخطاب الذي هيمن على مناخنا السياسي وحاشيته الثقافية ردحا من الزمن، ومازال يؤثر بوعي أو دون وعي في كثير من الكتابات، وهي النوع من الكتابة المحكومة بوسواس القبض النهائي على الحقيقة مثل أي خطبة تنقل من فوق منبر مصفحة ضد النقاش.

يشير الككلي نقلا عن مقالة الهادي التي ينتقد فيها الدساتير التي يصفها بأنها "نتاج اتفاق دولي، لا دور فيه للإرادة الوطنية، وأخرى كانت من عمل هيئات أقامها المجتمع الدولي، أو فرض عليها مبادئ توجيهية، وأصبحت تحكم شعوبا، لم يكن لها دورٌ في نشأتها". ويضرب د. بوحمرة، كما ينقل الككلي، أمثلة على ذلك بدستور قبرص (1960) والبوسنة (1995) وأفغانستان (2001)، وأيضا بالدستور الليبي (1951).

وما يعنيني في هذا السياق وضع الدستور الليبي (1951) ضمن الدساتير التي كتبتها إرادة دولية، ولا أستطيع أن أقيم باقي الدساتير المذكورة لأني لا أعرف الظروف التاريخية التي أحاطت بصدورها، مثلما أعرف تقريبا بالتفصيل ظروف وآلية إصدار الدستور الليبي (1951). وتأتت هذه المعرفة من قراءتي المركزة لكتاب أدريان بيلت "استقلال ليبيا والأمم المتحدة"، وخصوصا الجزء الكامل، أو المجلد الثالث الذي ركز كليا على عمل لجنة الستين ونقاشات صياغة الدستور بكل ما أحاط بها، وبالوثائق التي تستعين بمحاضر الجلسات، ونقاشات مشروع الدستور مادة مادة من قبل شخصيات ليببية وطنية يذكر أسماءها وأقوالها، وكان دور المندوب وفريقه استشاريا حين تحال إليه الرغبة في تقديم المشورة من لجنة العمل داخل لجنة الستين، فضلا عن السماح في بعض الجلسات للنخب المثقفة والجمهور بالحضور.

ما يستفز في هذا الحكم جزافا كونه صدى خطاب عقود طويلة، عبأ فيها النظام السابق كل أدواته لتشويه تلك المرحلة، لأن أطروحة الزعيم الذي سُمي (المنظر والمفكر) كانت خاضعة للغنائية نفسها ولهيمنة صوت المونولوج الداخلي الذي يحكم مشروعه المصاب بوسواس أن كل شيء بدأ من عنده وينتهي عنده. هذا الكتاب الذي ترجمه أخيرا دكتور زاهي المغيربي، وأصبح متاحا كأهم مرجع يرصد مرحلة تشكيل الدولة الوطنية الليبية الأولى خلال عامين، قضى المؤلف خلال الإعداد له عشر سنوات من الترحال بين أراشيف المؤسسات التي كانت لها علاقة بهذا الاستحقاق، ومن قراءة وترجمة كل الوثائق وحتى المحاضر المكتوبة بخط اليد كي يصل إلى هذا السرد الدقيق والموضوعي، وبالحياد نفسه الذي مارسه في مهمته في ليبيا، حين كانت منظمة الأمم المتحدة في بدايتها وكان الحياد ممكنا وفق الشحصية التي تعمل فوق الأرض.

من جانب آخر، حين نتحدث عن مجتمع دولي أو إرادة دولية فليس من الوجيه أن نحكم عليها في قياس واحد دون أن نعي طبيعتها عبر الزمن وما حصل من تغيرات في بنيتها وأسلوب عملها، لأن هذه الإرادة ليست نفسها نظريا وعمليا حين صيغ دستور أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعندما صيغ دستور ليبيا قبل 70 سنة عندما كان عمر منظمة الأمم المتحدة أربعة أعوام ومازالت في طور بناء مقرها الرئيسي في نيويورك، وقت شروعها في الملف الليبي. وكان المفوض بيلت ينطلق من خلفية ثقافية تحترم خصائص الشعوب وثقافاتها، ما جعلته يتجاوز شروط قرار المنظمة في الشأن الليبي حين اطلع على طبائع وخصائص هذا المجتمع، ودافع عنها في اجتماعات الجمعية العامة احتراما لرغبات الداخل. فالإرادة الدولية في قراراها اشترطت "ليبيا دولة مستقلة موحدة ديمقراطية" غير أن الوضع الذي واجه بيلت وقتها جعله يسلم بمبدأ شكل الدولة الفيدرالي أمام الواقع على الأرض، ورغبة بعض الأطراف، وفي إطار مدونة دستورية ونظام إداري سيؤدي تدريجيا إلى وحدة البلاد.

كان بيلت يتنقل بين الأقاليم الثلاثة وبين النخب والشخصيات الفاعلة في هذه الأقاليم، ويتصادم مع حكومات الوصاية الفرنسية والإنجليزية في سبيل تحقيق رغبات النخبة الوطنية من المجتمع المحلي، والكتاب زاخر بمثل هذه المواقف، بينما أعضاء لجنة الستين كانوا لا يجدون حرجا في توبيخ المندوب إذا أحسوا بأنه يحاول أن يتدخل في عملهم دون طلب المشورة . بل وتصادموا مع مندوبي الباكستان ومصر في مجلس ليبيا عندما ما حاولوا التدخل في صياغة الدستور .

وفي النهاية خرج دستور يقدم المصلحة الوطنية على كل شيء، رغم اعتراض حكومات الوصاية على نقاط كثيرة منه واعتراض بعض أعضاء الجمعية العمومية للامم المتحدة، خصوصا دول أمريكيا اللاتينية التي كانت متعاطفة مع إيطاليا وأقليتها في ليبيا. ولو حاولت أن انقل اقتباسات من هذه الوقائع لما كفاني مجلد.

أما علاقة بعثة الأمم المتحدة بهذا الاستحقاق فقد كانت في قمة التعاون والنزاهة دون التدخل المباشر كما يروي المؤلف تفاصيلها موثقة، وحتى عندما أدلى بمقترحات تختار منها الجمعية التأسيسية... فقد كان رد فعل الجمعية التأسيسية على تعليقات المفوض متحفظا بشكل قاطع. وعن هذا الرد يقول بيلت: "وعلى الرغم من ذلك كان الحدث درسا للمفوض، الذي تعلم أن عليه أثناء ممارسة وظائفه الاستشارية أن يضع في حسابه أنه سيواجه من حين لآخر رفضا لاتباع مشورته. وفي هذه الحالات، يجب أن لا يشعر بالكدر أو الانزعاج، حتى وإن بدا في أعين الناس أنه فقد ماء وجهه. وكان هذا جزءا من الواجبات العادية لأي مسؤول دولي."

القول بأن الإرادة الدولية هي التي كتبت الدستور اتهام مبطن للجنة الستين وللجان المنبثقة عنها بالعمالة أو التواطؤ على أقل تقدير، وإلقاء هذا الحكم دون تفحص أو تامل لتلك المرحلة فيه إجحاف كبير، ويقوض المنطلقات الأخلاقية التي تفرض علينا مبدأ الإنصاف حين نتحدث عن حقبة وعن جيل كامل، بل وعن تأسيس كيان وطني دفع الكثيرون حياتهم أو سنوات طويلة من السجن أو النفي من أجل القيم المدنية التي تبنى عليها الدولة الحديثة، والتي خُسف بها مع حقبة هيمنة الصوت الواحد الذي كتب التاريخ الليبي على مزاجه الخاص، وأقصى منه أولئك المؤسسين الذن يستحقون منا وقفة إنصاف.

وهنا لا أتحدث دولة مثاليثة في ذلك الوقت، ولا عن أداء بمعزل عن التجاذبات والضغوطات، فالإرادة الدولية كما يشير الككلي قد تكون ضرورية لحل بعض الأزمات المستعصية، وفي جميع الأحوال يجب أن لا تتدخل هذه الإرادة في صياغة الدستور الوطني التي يجب أن تكون شأنا محلياً.

في رده يسلم الكاتب الككلي بتحوط بهذا الحكم الذي ألقاه الهادي، لكنه يستدرك باستخدامه لمفردة دقيقة ووضعها بين قوسين حين يجادل "وبالتالي حلَّ "التوجيه" الدولي للدستور الليبي مسألتين، المسألة الأولى أنه أنهى وضع الانتداب الذي كانت تحته ليبيا، والمسألة الثانية أنه حال دون تفاقم الانقسام وتحوله إلى حرب أهلية". وفعلا اقتصر دور المبعوث وفريقه على التوجيه، لكنه توجيه خاضع للخبرة التي كان يفتقدها معظم أعضاء لجنة الستين وليس لإملاءات سياسية. وحاولت الأطراف ذات الصلة بالشأن الليبي أن تضغط، لكنها تتراجع إلى أضيق نطاق أو تتلاشى أمام إرادة وطنية كانت واضحة في كل التفاصيل رغم الاختلافات الظاهرة. من جانب آخر، وفيما يخص الانقسام والخوف من الحرب الأهلية الذي تطرق إليه الككلي، فقد سبق ذلك التوقيع على مواثيق المصالحة بين مناطق وقبائل ليبيا منذ العام 1946 تحت رعاية الأمير وبعض الأعيان الآخرين، ولولاها كان من الممكن أن تحدث حالات من أخذ الثأر أو الحرب الأهلية في كل إقليم وليس بين الأقاليم، لأن هذه المواثيق كانت غايتها المصالحة الاجتماعية وليست السياسية داخل كل إقليم، ويتطرق بيلت لهذه الفرشة الاجتماعية التي هيأت للعمل السياسي فوقها.

كل الأمم لديها تاريخ تفتخر به، ومؤسسون يعتبرونهم رموزا وطنية تعزز ثقتهم بأنفسهم، وحين نفُرغ تاريخنا من كل محتواه الوطني والأخلاقي، فنحن في الواقع كأننا نقول نستحق ما يحدث لنا، أو نقول للمفسدين الآن ولمن يخضعون لإملاءات من خارج الحدود، هذا طبيعي، وهذا ما فعله أجدادكم، وأن هذه البلد كانت طوال التاريخ كذبة وكل ما فيها مزيفا. وأنا أستغرب كيف يستمر هذا الخطاب بعد سقوط النظام وتحرير التاريخ الليبي الوطني بكل ما له وما عليه، وأصبح متاحا أن نطلع على جوانب كثيرة كانت مخفية منه، تعزز إيماننا بهوية هذا الكيان، وبقدرته على أن يتجاوز الصعاب، حين نستدرب الملهم فيه ونتجنب الأخطاء.