Atwasat

شيء من مذكراتي (3)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 07 سبتمبر 2021, 02:02 صباحا
أحمد الفيتوري

الصابري عرجون الفل/ الصابري عمره ما ذل
الصابري ورد وياسمين/الصابري زين على زين

حي الصابري، حي شعبي، سكنه مهاجرون فقراء، من غرب وجنوب ليبيا، وبدو من أطراف مدينة بنغازي. لكن الأهم، سكانه من أصل أفريقي، من بهم يُعد الصابري، مركزا للفن الشعبي، ومنه ما عرف بـ "المرزكاوي". ومن الحي، كان أشهر الليبيين، في فنون الموسيقي والغناء، وفي الآداب والثقافة، والرياضة والسياسة.

ولهذا كنت محظوظا، بأن أكون من سكان هكذا حي. وأن يهاجر أهلي، من مدينة زليتن في الغرب، إلى بنغازي وفي حي الصابري، ما كان يعج أيضا بالطرق الصوفية، فكنت في صباي تربيت في الزاوية الأسمرية، لاعتبار أني من أصول صوفية، فجدنا الأكبر شيخ شهير معروف، في المغرب العربي ومصر والسودان: "عبد السلام الأسمر".

الظروف الاجتماعية والاقتصادية، متحركة ومتغيرة بشكل مفرط، خلال القرن العشرين قرن القرون. أنا من أبناء القرن العشرين، كما من أبناء دولة الاستقلال، حيث ليبيا استقلت في 24 ديسمبر 1951م، ولهذا كنت تلميذا، في دولة المملكة، التي كان فيها التعليم إلزاميا. وقد كنت أول فرد في أسرتي، يفك الخط أي يمحو أميته.

كان أبي الأمي، حريصا على التعليم، والدولة فقيرة الموارد، حريصة أيضا، وأما المدرسون، فقد اعتبروا أنفسهم، رواد نهضة، نحن فيها الجيل الصاعد. من هذا في المدرسة الابتدائية، وجدت حرص المعلمين، منهم "إبراهيم السحاتي"، من صار فيما بعد نقيب المعلمين الليبيين، ثم نقيب المعلمين العرب. هذا المعلم "إبراهيم السحاتي"، جعلني رئيسا لتحرير جريدة حائطية في السنة الخامسة الإبتدائية، أذكر اسمها "الشروق"، وكنت أكتب فيها، بمساعدة معلمي ومراجعته، هو المعلم القومي العربي، المعارض في النظام الملكي، من ساهم في تأسيس نقابة المعلمين.

ثم من جانب آخر أبي التاجر، جعلني منذ الطفولة، أذهب فجرا معه لدكانه لمساعدته، حيث كنت الإبن الأول له والذكر، وهو الأمي كان محبا للعلم، لهذا يمنحني القروش، لشراء مجلات الأطفال، كمجلة "سمير" المصرية و"سوبرمان" اللبنانية، و"الليبي الصغير" التي كانت ملحق مجلة "ليبيا الحديثة". وأيضا كان لي زملاء في المدرسة مثلي، شغوفين بالقراءة ثم الكتابة، مثل من كتب الشعر "محمود العرفي"، والمخرج المسرحي "داوود الحوتي". وكان ناظر المدرسة "فتحي الجدي"، من درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، خير معين لنا، مع مدرس اللغة العربية اللبناني "عيسى التهامي".

هكذا تظافرت، عوامل عدة، منها الفقر، ما كان يُوجب، أن نتميز بالعلم والثقافة. الثقافة هي أس الحياة والنهضة، أو هكذا اعتقد المثقفون العرب، منذ القرن التاسع عشر، إنها الطريقة وطريق النهضة. ضمن هذا الاعتقاد نشأت، فكانت الثقافة التربية، وكان من علموني، هم من تربوا على المعلمين الأوائل، المحتارين بين الأصالة والمعاصرة.

هذا الظن في الثقافة، ما كان يعاني، من انفصام شخصية، صبغ في دولة الاستقلال والتحرير، بأنه الطريقة الوحيدة الممكنة، للمشاركة والتعبير عن الذات. بعد قامت هذه الدولة، بتأميم السياسة، ومنعت الأحزاب وما في حكمها. لهذا الجانب الموضوعي، كانت ميولي الذاتية ثقافية، فنجوم المرحلة، غير الساسة ولاعبي الكرة وأم كلثوم، الكُتاب. ففي ليبيا كان الكاتب "الصادق النيهوم"، بالنسبة لجيلي نجم النجوم.

لكن للأسف، لم أفك الخط: إلا وحياتي والبلاد قد انقلبت: انقلاب أول سبتمبر 1969م في ليبيا، جاء عقب هزيمة عربية نكراء، هزيمة 5 يونيو 1967م، جاء انقلاب سبتمبر ومعه انقلابات أخر في السودان ثم سوريا، وكذا في مصر، ما عرف بانتحار المشير عبدالحكيم عامر قائد الجيش، ومحاكمة رفاقه. ثم سقوط ديجول في فرنسا، بعد ثورة الطلاب العالمية 1968م.

نعم انقلاب سبتمبر في ليبيا، حدث في مرحلة جديدية في العالم، وخاصة العالم العربي. ولهذا كمراهق، كمتمرد، كنت أيضا مع الانقلاب، وخرجت في المظاهرات الجمة، والمتتالية التي تؤيده. وكان الانقلاب مؤيدا، من الأغلبية المحلية والإقليمية والدولية، حيث من الساعات الأولى، اعترفت مصر عبد الناصر، والولايات المتحدة وبريطانيا، من كان لهما قواعد عسكرية في ليبيا!. ومازلت أعتقد، أن انقلاب سبتمبر في ليبيا، كما هزيمة يونيو 67 العربية، لهما الأثر الأساس فيما تعانيه ليبيا، اليوم والعرب اليوم.

جاء انقلاب سبتمبر العسكري، رغم أن الملك إدريس لم يعمل، على أن يكون لليبيا جيش، غير مؤسسة عسكرية، من لزوم الدولة الحديثة، بدافع تفادي الانقلاب، ما كان حدث في الجارة الكبرى مصر، ساعة الاستقلال الليبي، وإنشاء المملكة الليبية المتحدة. أضف أن ليبيا، مع مطلع الستينيات، أصبحت دولة بترولية، على ثروتها المستجدة العين.

وليبيا المملكة، أرادت أن تنهج نهجا تقليديا، في نشأة وتطوير الدولة، في زمن غير تقليدي. لهذا كان انقلاب سبتمبر انقلابا غير اعتيادي، مثلما حصل في سوريا والعراق والسودان. وكانت جميعها انقلابات قلبت الحال والأحوال، وأدخلت البلدان في مهام ليست لها. لقد أرادت، قيادة هذه الانقلابات، أو زعمت، الزعامة الإقليمية، وطمعت في دور دولي حتى!.

هنا مركز الويل، الذي عانت منه هذه البلدان. ويكفي أن نتذكر، أن العقيد معمر القذافي، منذ ساعات انقلابه الأولي، زعم أنه جاء بـ "نظرية عالمية ثالثة"، لإنقاذ العالم الذي يتقلب ولا يتغير، فدفع الليبيون، ودفعت معهم، في أول العمر، ثمن رغبات وأحلام يقظة القذافي، من أجل تغيير هذا العالم!.