Atwasat

خرافة أخرى: (العادل المستبد)

صالح الحاراتي الثلاثاء 07 سبتمبر 2021, 01:57 صباحا
صالح الحاراتي


خير محك للحكم على إنسان أو أي أمر يهمك هو (التجربة العملية).. ولكي تتأكد ممن تظنه إنسانا ما وجب متابعة ما يصدر عنه واعطاؤه فرصة ومهلة من الزمن حتى يتبين لك نمط تفكيره وتأثير البيئة المحيطة به وانعكاس الثقافة السائدة على المحتوى الذى يشغل عقله.

لى اصدقاء كثرعلى صفحات التواصل الاجتماعى، توجهاتهم مختلفة، ولكني أحاول أن أمتلك خاصية قبول الآخر طالما لم يصل اختلاف وجهات النظر إلى الفجور فى الخصومة.. وكنت أظن أننى أستطيع بنجاح تحديد هوية كل منهم ورؤيته وانتمائه ومستواه المعرفى، ولكن لا مناص من الإقرار بأن محاولاتى لم تكن ناجحة دائما.

مع الأيام ظهر لي أحدهم على أنه مثقف وعاقل وحكيم وليس من شراذم "أهل الجمهرة" الغوغائيين، تابعته لفترة غير قصيرة وكلما فاجأني برأي "ملتبس جماهيريا "تجاهلت الأمر" رغم أن عقلي كان يحدثني عن قصة "ذيل الكلب اللى حطوه 40 عام فى قصباية وطلع معوج فى النهاية".. ولكني كنت أتجاهل تلك القصة لسببين: الأول لإيمانى بأن التغيير سنة الحياة، والثاني لأنني أحرص على نقد المسلمات ولا أصدق الكثير مما هو شائع.

آخر ما بدر من صاحبنا هو أنه يبرر نظام الحاكم الفرد تحت ذريعة إيمانه بـ "العادل المستبد" وأن ذلك ركن أساس فى رؤيته للحياة.. وبذلك أزاح صاحبنا قناعه، وصارت حكاية ذيل الكلب محط مراجعة عندى لأتبين صدقيتها! وإن كنت أؤمن بأن مصداقية الحكاية تنسحب على حالات فردية وليست قاعدة عامة.

للأسف حضرة المثقف.. لم أكن أتوقع منه (عندما تسوء الاحوال) أن يذهب به تفكيره إلى خرافة "العادل المستبد" التي جربناها طوال تاريخنا قديما وحديثا دونما فائدة؛ وهو لا زال يصرعلى استدعائها وﻻ زال يعتقد بنفعها.. لم أتوقع ذلك منه نظرا للدعاية التي تلوكها بعض الأفواه وهى تزكيه وتؤكد أنه نموذج مختلف عن زملائه الثورجيين .

دور الفرد فى التاريخ لا يمكن إنكاره وأثر الأفراد فى الأحداث لا ينبغي إغفاله، ولكن تضخيم ذلك الدور سيؤدي حتما إلى الدكتاتورية التى يقدمون لنا مسوغاتها تحت اسم "العادل المستبد" وهو الوهم التاريخى وفيروس ثقافتنا.
إن ما يكتبه صاحبنا بهذا الخصوص ليس إلا تأكيدا على أنه "من شب على شىء شاب عليه" وتأكيدا أيضا على أنه ﻻ وجود فى عقله وفهمه وثقافته يقين بشئ اسمه تداول السلطة.. قناعته لن تأتي لنا بجديد، وستذهب بنا إلى نفس الحالة المرضية المزمنة لكي نواصل تأرجحنا كبندول الساعة بين الاستبداد الدينى واﻻستبداد السياسى المشوه.

على كل حال، أنا أعرف أنه ليس الوحيد المحب والمروج لتلك المقولة الفاسدة "العادل المستبد"، ولكني كنت أتوسم فيه خيرا، عقل ناضج عاش عقودا من عمره في دولة الشعارات والوهم، كنت أحسب أن التجربة خير معين له ولغيره لكي يتضح خواء تلك العبارة ولا منطقيتها، فلا يمكن للعدل أن يقترن بالاستبداد وأظن ذلك أمرا بديهيا لا يحتاج لبرهان نظرا للتناقض الظاهر واستحاله الجمع بين نقيضين.

وليته قدم تفسيرا أو تبريرا كمثل تبرير عابد الجابري حين قال: لقد كان "الاستبداد" يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه.. ومن ذلك جاءت تلك العبارة الشهيرة "إنما العاجز من لا يستبد"؛ وحاول جاهدا أن يقيد الاستبداد بالعدل. ولكن الجابري عاد وتراجع حيث
قال بأسف (إن البديل الواقعي القائم دوما هو شيء آخر غير "الاستبداد المقيد بالعدل"! إنه "الاستبداد المطلق" الذي هو النقيض للديمقراطية).

المعضلة هي أن الاستبداد والعدل ليسا فقط من المتناقضات بل من الأضداد.. فالاستبداد والدكتاتورية هما أضداد للعدل والإصلاح، ولذلك يأتي السؤال، هل يمكن الجمع ما بين الماء والنار؟

للأسف.. وبسبب تأثير العفن والصدأ الذي في العقول.. نلاحظ أنه عندما تسوء الأحوال لا يذهب تفكير الكثيرين إلى إقامة (نظام) مؤسسات تحفظ الحقوق والحريات، ولكن يذهبون إلى الحلم الوهمي بالبطل والزعيم المنقذ والمستبد العادل!

وللذين يسوقون لنا ما يسمونه بـ "الاستبداد الصالح" المتدثر بعباءة دينية أو قومية أو جهوية عوضا عن "الاستبداد الطالح" الذي عشناه فيما مضى، أؤكد لهم "لن تنجحوا فى ذلك أبدا.. فاﻻستبداد ملة واحدة ويقينا أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.. فما هو مؤكد "أن الدول المحترمة والفاعلة فى التاريخ تبنى بالمؤسسات والعلم وتداول السلطة وسيادة القانون... أما زمن الوهم، زمن الدكتاتور العادل فقد انتهى ويجب أن ينتهى.