Atwasat

الساطور الذي فقدناه

جمعة بوكليب الخميس 02 سبتمبر 2021, 11:04 صباحا
جمعة بوكليب

تقول حكاية سمعتها، ذات يوم، تُروى من صديق، إن البحارة قديماً، في بلاد الغرب، كانوا، قبل إقلاعهم مبحرين في رحلة، يتبادلون نَخباً أخيراً من شراب، عقبها يقوم كل واحد منهم بالبوح لرفاقه عن فعل اقترفه وندم عليه. الخوف من أن تكون رحلتهم القادمة الأخيرة، كان دافعهم إلى تفريغ قلوبهم مما كان يعربد فيها من ندم. وأنا لست بحاراً، ولم أكن يوماً. ولا توجد سفن راسية في انتظاري. لكن، يا للصدف، قبل رحلتي المقررة، ذلك المساء، إلى تلك الناحية في شمال شرق لندن المعروفة باسم "هوكستون"، تذكرت تلك الحكاية. وتمنيّت لو أن صديقاً كان معي لأعترف له بندمي على عدم لقاء الساطور حيّاً، والتعرف عليه شخصياً، قبل أن تختطفه يد المنية من بيننا، وتحرمني فرصة الجلوس معه وتبادل الحديث.

رغم تستره وراء اسم الساطور لسنوات طويلة، كنتُ، شخصياً، قد عرفت من هو، ومن أين أتى. وسمعت الكثير من الحكايات عنه، من خلال أصدقاء مشتركين تعرفت بهم في لندن، كانوا يعيشون قربه في مدن الشمال البريطاني، وليس في نفس المدينة، وجمعتهم به صحبة ورفقة. لكنهم سرعان ما تركوا الشمال ونزحوا جنوباً، مدفوعين بأحلامهم وطموحاتهم. وبقي المرحوم حسن دهيميش في تلك المدينة الشمالية "بيرنلي- Burnley"، التي وصلها صيف عام 1975، ولم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره.

الساطور، رسام الكاريكاتور المشهور، الذي كان، بدأب، يهشم أسبوعياً عظام الديكتاتور ونظامه العفن بنصل ريشته، وشد إليه الأنظار لما في رسوماته من سخرية وجرأة وتحد. كان لا يتوقف عن إضحاكنا من ذلك الوحش الفاشي، الذي أحال حياتنا كابوساً مرعباً، ويحثنا على السخرية منه والضحك بصوت عال على تهريجه وهلوساته. ولم يتوقف عن ملاحقة الوحش وفضحه، بإظهاره يتمخطر بقفاطينه المقرفه بألوانها الفاقعة. وزيادة في السخرية منه وإهانته، ياللهول، كان يضع له أحمر شفاه على شفتيه، وحذاء نسائيا في قدميه.

الرحلة من منطقة سكناي في جنوب غرب لندن، إلى منطقة هوكستون، ليست بعيدة لكنها ليست سهلة، لكثرة التواءاتها، وما تحتم من ضرورة الانتقال من محطة قطارات إلى أخرى. لكني وصلت إلى المكان في الموعد. وفي صالة العرض التقيت ابنه شريف، وبعض الأصدقاء القدامى، الذين جاءوا من مختلف مناطق لندن وخارجها. كان الساطور هناك في انتظاري، حاضراً بقوة فيما تركه لنا من أنفاسه على اللوحات المعروضة التي تزين جدران صالة العرض، بأحجام مختلفة. لكن حسن دهيميش، للأسف لم يكن موجوداً، إلا في الصور، وفي شريط الفيديو، الذي يعرض في غرفة عرض صغيرة بالصالة، موثقا لقطات عديدة من ديوان حياته.

الولد الذي فتح عينيه وتربى وكبر في بحر الشابي في بنغازي عام 1955 وتعلم في مدارسها، نشأ محبا للرسم، لكنه لم يكن يعرف أن القدر شاء له أن يكون فناناً تشكيلياً موهوباً، ورساما كاريكاتورياً في رهافة نصل الساطور وصلابته. ولم يكن يعرف أن الساطور، الاسم الذي اختاره ليختبيء وراءه، وعُرف به، سوف يستحوذ على كل وقته وتفكيره، حتى يقضي، في آخر الأمر، على حسن دهيميش الإنسان والزوج والأب والأخ والصديق، كما اعترف بذلك ابنه شريف في الكتيب الذي أعده خصيصا للمناسبة.

المعرض الذي أقيم في قاعة "هوكستون 253" كان بعنوان "مقاومة، تمرد، ثورة" أشرف على إعداده ابنه النجيب شريف، وحضره جمع غفير، ضاقت بهم صالة العرض الصغيرة. جاءوا جميعا ليتعرفوا على الساطور الفنان التشكيلي، الذي أخفاه عنهم الساطور الساخر. معظم اللوحات التشكيلية في القاعة استحوذت عليها أجواء ومناخات نوادي موسيقى الجاز. واختص جانب آخر بعرض رسوماته الكاريكاتورية. وما لفت نظري حقا هو شغف المرحوم برسم مناظر من مدن ليبية مختلفة، بالحبر الأسود، وبخطوط بسيطة وجميلة، تمتليء بروح نوستالجية لما عَرف وأحبَّ، في تلك البلاد التي كنا نحلم أن تصير لنا وطناً، فاستحالت إلى كابوس. كما أعد ابنه شريف كتيبا خاصاً بالمعرض، باللغة الإنجليزية، شمل سيرة والده المرحوم منذ ولادته في بنغازي، ونشأته، وخلفية عن عائلته وخاصة والده المرحوم الشيخ الأزهري، ثم وصوله إلى بريطانيا، والمراحل الحياتية المختلفة التي مر بها في الغربة، والأهم سعيه الحثيث لمواصلة تعليمه، ثم تخرجه من جامعة برادفورد، وعمله مدرساً للجرافيك في كلية قريبة من مقر إقامته، حتى قيام الثورة في فبراير 2011، والتحاقه بصفوفها الأولى في إذاعة ليبيا الأحرار بالدوحة، والعلاقة الوثيقة التي نشأت بينه وبين الكاتب والقاص عمر الكدي، وتعاونهما خلال تلك الفترة.
رحم الله الفنان حسن دهيميش.