Atwasat

قل للباكين على الزمن الجميل

سالم العوكلي الثلاثاء 17 أغسطس 2021, 11:34 صباحا
سالم العوكلي

ليس لي أحلام كبيرة أو رغبات معقدة، أريد فقط أن يكون كل شيء نظيفا ومرتبا وفي مكانه،
وأن أجد وقتا للكتابة (عملي الذي نقتات منه) ، وللقراءة، ومشاهدة الأفلام ومباريات كرة القدم، وبعض ساعات للنوم دون كوابيس، لكن في قلب الفوضى والمنغصات تبدو هذه الرغبات الصغيرة صعبة المنال حتى في بيتي الصغير، ما بالك بالبيت الكبير الذي نسميه وطنا، وبأحلام ورغبات حياله تبدو صعبة ومعقدة.

في اللغة الإنجليزية تطلق المفردة نفسها Home على البيت وعلى الموطن أو الوطن، لأنهما متداخلان بشكل عضوي، وبقدر ما يهيء البيت الأجيال لاستقبال الوطن بحبور، بقدر ما ينعكس وضع الوطن على البيت. يُصدِّر الوطن منغصاته وتوتره لداخل كل بيت، ويتحول إلى ركن صغير في الجحيم إذا ما تحول الوطن إلى جحيم.

أحأول أن أجعله ملاذي، وأتقي بجدرانه عواصف الغبار التي تدور في الخارج، متحاشيا إلى أقصى حد متابعة نشرات الأخبار، غير أن رغباتي الصغيرة وهواياتي التي أحاول أن أفكها من مخالب الساسة وأنيابهم، تجتاحها ازمات الوطن بكل جدارة. تنقطع الكهرباء فيتحول الليل إلى كابوس طويل نحدق في عتمته بعيون مطفاة، تتوقف الكتابة والقراءة ومتابعة أي زاوية جمال في هذا العالم عبر الشاشة، فأقول بدل أن تلعن الظلام يا سالم، شغل المُولِّد، وحين يضج المولد مع المئات الأخرى يصبح المكان محجرا صاخبا لا تستطيع أن تسمع فيه حتى الصوت في داخلك الذي يطالبك بالصبر.

رغم سكني ضمن المخطط الرسمي للقرية، إلا أني أحتجت لأن أمد خط مواسير مسافة 200 مترا كي أجلب الماء إلى البيت، كلفني مرتب شهرين رغم أني أدفع شهريا قسط المياه منذ ثلاثين سنة، أما النفايات والقمامة فلأن بيتي يقع في طرف القرية خصصت لها محرقة صغيرة، لأني مازلت لا أستسيغ أن ألقي كيس قمامة على جوانب الطرقات التي أصبحت المكب الوحيد للقمامة في هذا الوطن القارة المترامي الأطراف. أدرك أن كيس قمامتي لن يضيف لهذه الأكداس شيئا، ولكني أخذت على نفسي عهدا أن لا أشارك في هذه الجريمة ولو برمي منديل ورقي، أدرك أن محرقتي الصغيرة تساهم في بث الغازات في االفضاء، وبالتالي في ما يسمونه خطر التغير المناخي، لكن ماذا أفعل في وطن طيلة عقود من ضخ النفط والخطابات الحماسية والمتوترة، والحديث المنكه بلفظة الجماهير عن السعادة، لم يضع أي خطة لتدوير النفايات أو التخلص منها، وحتى حين عبّرت شركات عالمية عن رغبتها في شراء القمامة من المدن الليبية وتكفلها بالتنظيف باعتبار هذه القمامة ثروة من المواد الخام، رفضتْ إدارات النظام السابق المصاب بوسواس الأجانب القهري هذا العرض دون أن تطرح بديلا، واستمرت القمامة تتكدس في الشوارع وعلى الطرقات وفي الغابات المستزرعة وعلى الشواطيء، وفي أفضل الأحوال تُرمى في الوديان فتلوث المخزون الجوفي من المياه العذبة، إضافة إلى تلوث البحر الذي أصبح المكان الوحيد لاستيعاب مياه الصرف الصحي في كل مدن وقرى ليبيا الساحلية.
تحدثت سابقا عن الماء، ومن الممكن أن يحيل شامت هذا الجانب أيضا إلى ثورة فبراير والعقد الأخير، لكني طيلة سنوات من التسعينيات حين كنت أسكن في شارع في قلب درنة لم تصل ــ مثل غيري من ألاف البيوت ــ المياه إلى البيت إطلاقا، وكنت أقوم بسيارتي الأوبل المتهالكة أبدأ كل منتصف ليل بجلب الماء في أوعية بلاستيكية حتى أملأ الخزان الصديء في مدخل البيت مع شروق الشمس، إلى أن حفر أحد الجيران بئرا وبدأ يزودنا بالماء المقنن، ولأن ذاك البئر كان بقرب محطة بنزين عتيقة، كانت تفوح منه رائحة البنزين المتسرب، فكنت أذهب لألتحق بطوابير العطاشى أمام الحنفية التي تصدقت بها المحطة البخارية على الشعب العطشان، في مشاهد تذكر بالأحياء الشعبية في دولة إفريقية تعيش حربا أهلية. أما الكهرباء التي يربط الجيل الجديد انقطاعها بالعقد الأخير، فمازلت أذكر الليالي السوداء التي انقطعت فيها علينا أيام الزمن الجميل، قال مرة صديق: فهمنا.. تنقطع الكهرباء في الصيف بسبب الحر والرطوبة، وفي الشتاء بسبب المطر، وفي الخريف بسبب الرياح الشديدة. فما الذي يقطعها في الربيع؟ فقلت بسبب حبوب اللقاح المنتشرة في الهواء، وضحكنا، فقال بدل أن تلعن الظلام اضحك.

لا أربط هذه المنغصات بسنوات الفوضى الأخيرة فحسب، كما يفعل الكثيرون من معادي انتفاضة فبراير الضرورية جدا، ومن الشامتين في حلم الناس المقوض بالحرية والرفاه، لكن هذه المنغصات عشتها وعاشها الملايين مثلي حتى في السنوات التي يسميها البعض سنوات الخير عندما كانت البلاد مستقرة وآمنة كحظيرة حيوانات مسيجة يتوفر لها العلف المدعوم، وتحيط بها الكاميرات والرعاة ونباح الكلاب من كل صوب، حتى في هذه السنوات كانت المعاناة على أشدها إلا الأقلية (وهم ليسوا بقلة) من المستفيدين من مؤسسة الفساد التي فتحها النظام على مصراعيها دون رقيب أو عقاب، وهؤلاء هم من يسمون تلك الفترة سنوات الخير أو الزمن الجميل، لكنه لم يكن خيرا ولا جميلا عند أغلب الليبيين الذين عاشوا على الكفاف أو دونه.
في عقد التسعينيات، وحينما كان النظام يبيع العملة الصعبة في السوق السوداء عن طريق سماسرة نافذين يحتكرون هذه التجارة، ووصل سعره في السوق الموازية عشرة اضعاف، يتذكر المواطنون مثلي المعاناة الصعبة التي مروا بها، كنت أقضي مع طوابير طويلة من التكنوقراط (مهندسين وموظفين ومعلمين وغيرهم) ساعات طويلة في المصرف للحصول على 50 دينارا على الأحمر لا تكفي أسبوعا لحياة متقشفة، كانت المرتبات تتأخر شهورا وأحيانا عاما، وكانت الشوارع تكتظ بالمتسولين والمتسولات، وكنا نحن نتسول بطريقتنا المتأنقة التي تحاول أن تحافظ على ماء الوجه عبر طوابير في المصرف للحصول على ما يسد الرمق من الحساب الذي لا رصيد فيه.

لا أتحدث عن السنوات العشر الأخيرة، ولكن عن عقد السببعينات الذي حولته النقاط الخمس، ثم إعلان قيام سلطة الشعب إلى بنية تحتية لكل الخراب القادم. وعقد الثمانينيات الذي يعرفه الليبيون جيدا، ويتذكرون طقوس الإهانة عمدا التي كانت تُمارس عليهم كي يحصلوا على حاجاتهم الضرورية. وعن عقد التسعينيات؛ عقد التضخم الذي أصبح فيه دخل الفرد يعادل دخل أفقر الدول في العالم، وعقد أطفال الأيدز الذي كانت فيه تستخدم الحقن الطبية لأكثر من مرة بسبب عدم توفرها في المستشفيات والمستوصفات وحيث كانت الدولة كما يقال مستقرة تبيع برميل النفط بأكثر من 100 دولار. وعن العقد الأول من الألفية الثالثة الذي تبناه وريث العرش سيف الإسلام الذي سماه الفقراء من الليبيين زيف الأحلام، حيث كل ما فعله في عقد وعوده الزائفة أن غّير الطبقة القليلة المستفيدة من ثروات الليبيين بطبقة أخرى فتية من تابعيه، والذين هم بدروهم يتحدثون عن سنوات الخير وزمنهم الجميل (أحدهم إعلامي شهير سمى ثورة فبراير نكبة في حوار تلفزيوني قبل أسبوع ".

وعد السيفُ الناس بالحرب على القطط السمان ففرخ قططا أخرى فتية وأكثر نهما، ووعدهم بالدولة المدنية والدستور والأحزاب، وحين خرج الناس في ثورة سلمية (في بدايتها) مطالبين بكل هذه القيم، بشرهم بحرب أهلية، وتوعدهم بإصبعه إن لم يكفوا فلينسوا حاجة اسمها ليبيا، ولينسوا النفط والجامعات، ولينسوا الحياة من أساسها.. إلخ.
كان الليبيون (وأقصد معظم هذا الشعب الذي كان خارج سنوات الخير والزمن الجميل) يبيعون كل ما لديهم من ممتلكات كي يذهبوا للعلاج في دول غير نفطية وفقيرة مثل تونس ومصر والأردن، ويختاروا هناك أرخص العيادات بأقل التكاليف، فيعود نصفهم في توابيت، ونصف آخر ذهب على قدميه يعود محمولا في سيارة إسعاف مؤجرة كي يكمل بقية زمنه الجميل في وطنه السعيد. وكان العنوان الرئيسي الأكثر تداولا لوصف حالنا: شعب فقير في دولة غنية.

هل أتحدث عن القمع والتصفيات والسجون، ورعب السابع من أبريل الذي نصب المشانق للطلاب في الجامعات والساحات العامة، ليصبح شعار هذه المناسبة السنوية المرعبة: "كل يوم هو يوم السابع من أبريل". هذا يحتاج إلى مجلد وليس مقالة.

أنا فقط أكتب جزءا صغيرا من ويلات ما يسميه الشامتون سنوات الخير أو الزمن الجميل، وما حدث في هذا العقد الأخير أن رجال النظام السابق هم من كانوا في الواقع في الصدارة بمن فيهم الإخوان المسلمون الذين صالحوا النظام السابق في مستهل الألفية الثالثة، حلفاء سيف الإسلام الذي كان ينوي أن يحكم بهم عزبة ليبيا في حال ورثها، كي يكونوا ذخيرته الأيديولوجية كبديل للجان الثورية حزب والده الفاشي.

ما حدث فقط، أن الخرابة الوطنية الموحدة تحولت، في هذا العقد الأخير، إلى خرابات إقليميةجهوية منقسمة، وأن مركزية الفساد فُككت، وأصبح نظام الفساد فيدراليا بامتياز.

الشعوب الحية تخطط للزمن الجميل في المستقبل ولا تبحث عنه في ذكريات المحظيين.