Atwasat

حادثة اختفاء مزهرية

جمعة بوكليب الخميس 29 يوليو 2021, 01:25 صباحا
جمعة بوكليب

«بسم الله العظيم» تقولُ أختي منزعجة، وبصوت مسموع لمن حولها، كلما اختفى شيء ما فجأة، ثم تُكمل قائلة:«يقضُوا ويردوا». أختي، أطال الله عمرها ومتّعها بالعافية، تقصد بالجملة الأخيرة «أهل الجن» غير المرئيين، الذين كانوا يشاركوننا السكن في منزلنا، من دون حاجتهم للحصول على موافقتنا. بعد سنوات طويلة، رجعتُ، ذات مساء، إلى شقتي في منطقة ويمبلدون، ولم أجد مزهريتي في مكانها المعتاد، فوق المنضدة الخشبية العتيقة، التي تحتل أغلب مساحة المطبخ، تستقبلني بإشراقة نور زهورها، فوجدتني، من دون قصد مني، أردد ما كنتُ أسمع أختي تقوله. الشقة الصغيرة حيث أقيم، حين طفت ببقية أرجائها باحثاً ومتفحصاً ومنقباً، وجدت كل شيء على حاله، كما تركته في الصباح. الأمر الذي يؤكد أن لا كائن مرئي تجرأ على دخولها في غيابي. وهذا يعني أن مسؤولية اختفاء مزهريتي تقع على عاتق كائنات أختي اللامرئية. ومن عادة أهل الجن، كما سمعت عنهم في الحكايات، أنهم للتخلص من الملل والضجر يلجأون إلى تسلية أنفسهم، مع الكائنات المرئية مثلي، بألعاب، تتسم بالشقاوة والصبيانية، خبروها. ومن ضمنها إخفاء أشياء لفترة من الزمن، ثم يعيدونها عقب اكتفائهم بالتسلية. فهل يعني ذلك أن مزهريتي الحبيبة ستعود، مرّة ثانية، إلى مكانها؟ لكن ماذا لو أنهم - أهل الجن - قرروا الاحتفاظ بها وعدم ارجاعها؟

كنتُ قد اشتريتها، منذ سنوات عدة مضت، من محلات «ايليس - ILYES» في وسط ويمبلدون، ذات مساء ربيعي، ومباشرة عقب انتقالي للإقامة في تلك الجهة المشهورة من مدينة لندن. زجاجها من كريستال تشيكي أصيل من إقليم بوهيميا. انتقيتها راغباً، من دون تردد، من وسط باقة كبيرة من المزهريات، بمختلف الأحجام والتصاميم، ومن مختلف البلدان. كانت بالطابق الثالث، معروضة للبيع في صالة كبيرة، بتناسق جميل،على سطح منضدة، وضع فوقها غطاء بألوان عديدة، فبدت جذابة، وكأنها لوحة فنية، أو بطاقة بريدية (كرت بوستال.) حين اقتربتُ منها، وحملتها برفق بين يديَّ متفحّصاً، لم تكن ثقيلةَ الوزن، ولا كبيرةَ الحجم، وملائمة لتستقر في منتصف المنضدة الخشبية العتيقة، التي تستحوذ على أغلب مساحة مطبخ شقتي. قبل العودة بها إلى مقر إقامتي، مررت بمحل قريب لبيع الزهور، واقتنيت باقة ورد فتية تليق بنا: هي وأنا. قلت في نفسي مبررًا ما دفعت مقابلها من مال، إنها كفيلة بإنعاش نفس كسيرة. وبالتأكيد، تَعِدُ بردّ روحٍ فاضَ كيلُها، مما أنزلته بها صروف الدنيا من أهوال، فتلاشت مبعثرةً في الغيوم شظايا.

كنتُ، ولازلتُ، أعتقد أن المزهريات سواء أكانت بمحتوياتها أم بدونها، خاصة المتميز منها، قادرة على لمس الوجدان البشري، واستثارته جمالياً. وكنتُ، حتى قبل انتقالي إلى لندن، أينما حللتُ وأقمتُ، أحرصُ على اقتناء مزهرية جميلة، لتكون مقراً ومستقراً لما أحضره، إلى محل اقامتي، من باقات زهور وورود، أحرص على اختيارها بعناية: باقةٌ في بداية كل أسبوع ترافقني حتى نهايته. أنزعُ عنها ما التف بها من غلاف بلاستيكي جميل يليق بنعومتها ورقتها وجمالها. برفق، تمتد يدي ملتفة حول أغصان الباقة القديمة، أسحبها من المزهرية، وألقي بها في سطل القمامة، ثم أقوم بغسل المزهرية جيداً، تحت ماء جارٍ، وملؤها بمقدار مناسب من الماء. وآتي بالباقة الجديدة، وأضعها برفق وود في مستقرها بالمزهرية، الموضوعة فوق منضدة في غرفة معيشة أو في مطبخ. ثم أبتعد خطوتين إلى الوراء وأتأملها بزهو، وابتسامة صغيرة ترفُّ كفراشة حبّ فوق شفتيَّ.

قبل حادثة الاختفاء المريبة، كنتُ حين أستيقظ صباحاً، أغادر فراشي مسرعاً نحو المطبخ لإعداد فنجان قهوة، فتكون أولَ ما تقع عليه عيناي. لكنها، لحسرتي، اختفتْ بفعل فاعل غير مرئي، يقيم معي في الشقة، وتؤكد أختي مقتنعة أنهم «أهل الجن» الذين يملأون الفضاء من حولنا أينما كنّا. وأنا لا اعتراض لي على وجود كائنات غير مرئية، سواء أكانوا من أهل الجن أم من غيرهم، طالما التزموا بالميثاق المتعارف عليه للوجود المشترك، وحرصوا على مبدأ التعايش السلمي:«عِشّْ ودعْ غيركَ يعيش».

عقب حادثة الاختفاء المحزنة، صرت، صباح كل يوم، مباشرة عقب استيقاظي من النوم، أردد بصوت مسموع لي، ما كنتُ أســــــــمع أختي تردده. على أمل أن ينتهي «أهل الجن» الذين يشاركونني الإقامة في الشقة من دون دفع إيجار، أو أي تكاليف معيشية أخرى تترتب على وجودهم فيها، من تسليتهم، ويهديهم ربي، ويقرروا ردَّ مزهريتي إلى مكانها المعتاد، وسط المنضدة الخشبية العتيقة، التي تحتل أغلب مساحة المطبخ، في تلك المنطقة من مدينة حلّ بها وبغيرها عدو غير مرئي، وأرهق سكانها المرئيين، وعلى أمل استعادة إشراقة زهورها وورودها، ذات يوم، لدى استيقاظي من النوم صباحاً.