Atwasat

اقتصادنا.. اقتصادها.. استعمارنا.. استعمارها

سالم الكبتي الأربعاء 28 يوليو 2021, 10:46 صباحا
سالم الكبتي

تلك الأيام كانت الجامعة الليبية عنوانا للعطاء الفكري والثقافي والتواصل مع المجتمع وظلت جزءا منه ومن قضاياه الملحة على الدوام. وكان أساتذتها ينهضون برسالتهم العلمية والتربوية عبر المدرجات والقاعات في محاضراتهم ومع طلابهم. كانت الجامعة تحلم بصنع المستقبل وإعداد قادة له. وهذا أمر حيوي ومهم تضطلع به جامعات العالم عبر أجواء حرية البحث العلمي والنقاش واحترام كل الآراءوالاجتهادات. الجامعة دورها أن تخرج للوطن أجيالا تمتلئ بالأدمغة الواعية وليست الجامدة.

الدكتور هاشم حيدر أستاذ من لبنان في العلوم الاقتصادية. جاء إلى بنغازي وظل في كلية الاقتصاد والتجارة بالجامعة واشتهر بدراساته ومحاضراته وعطائه العلمي فيما إاتم بظاهرة (الاستعمار الاقتصادية) وكتب عنها وترجم لها وحاضرحولها الكثير بنظرة علمية تختلف عن سابقاتها. ولعله كان من أوائل الذين عنوا بهذا الموضوع وأعطوه ما يستحقه من بحث وكشف علميين على مستوى المنطقة العربية. موضوع خطير يستأهل الدراسة والتحليل في عالم يعتمد في حياته وشؤونه على الاقتصاد وتفاصيله. الاقتصاد صاحب العلاقة الوطيدة بالسياسة واتخاذ القرارات ولاينفصل عنها على الإطلاق.

في ليلة من ليالي رمضان 1967، بعد يونيو (النكسة) بأشهر وكان العرب مايزالون في عز الدوخة منها ولم يستفيقوا.. ألقى د. حيدر محاضرة جديدة من نوعها وفي طرحها في الكلية ضمن موسمها الثقافي عنوانها:(اقتصاديات إسرائيل والدول العربية) كشف فيها المستور وسخر من الواقع الاقتصادي العربي الذي يفتقر في غالبه إلى المعاصرة والتطور ولم يزل تقليديا يرسف في الأرقام وحدها دون تخطيط ونظرة مستقبلية للفرد والأسرة والدولة والأمة، مقارنة بإسرائيل العدوة التي لم يعرفها العرب جيدا حتى خبطتهم في عز الظهيرة.

كانت محاضرة اتسمت بالعلمية والواقعية والمكاشفة والتنبيه إلى مخاطر العدو الاقتصادية إلى جانب أخطاره السياسية والعدوانية ورؤيته للمستقبل ونظرته للمنطقة. العرب كانوا ينظرون وربما مايزالون إلى عدوهم من الناحية العسكرية والحربية فقط دون النظر إلى خططه وأطماعه التوسعية الاقتصادية والثروات التي ستواصل امتدادها إلى أقصى مكان في العالم بفضل التخطيط والسياسات وإستراتيجية العمل الذي ينظر إلى البعيد.

أثارت المحاضرة عليه الغبار من (الأخوة القوميين). نالت منه السهام وزعلت السفارة المصرية في بنغازي والمركز الثقافي المصري وقارب على أن يتهم كالعادة في مثل هذه الأمور بالخيانة والعمالة لإسرائيل. واعتبر من المشككين في قدرات الأمة العظيمة واستطاعتها هزيمة إسرائيل ومن وراءها. ووصل العتاب والزعل إلى إدارة الجامعة عقب المحاضرة.

ماذا حدث بعد ذلك؟
وقفت الجامعة معه ولم تخذله. كان مديرها وعميد كلية التجارة والكثير من الأساتذة والمهتمين بالنشاط العلمي تابعوا المحاضرة بكاملها في الليلة الرمضانية الشتائية وشاركوا في الحوار بحرية واحترام وأكدوا على أن المحاضرة خطوة في الطريق الصحيح لمعرفة اْنفسنا ثم عدونا وتقييم سياساتنا بما فيها الاقتصادية أيضا. نشرت المحاضرة فى عدة حلقات بصحيفة الحقيقة ونشاْ حولها الكثير من النقاش.

ذلك النشاط الفكري والثقافي في الجامعة في مواسمها العلمية الزاهرة كان يستشرف المستقبل ويضع الأصابع على الجراح ولايهرب من الواقع، بل يعالج سلبياته ويتفاءل بغد آخر أكثر صحوا وجمالا. وكان البعض كالعادة لايروق لهم ذلك. صوت الحماس والخطابات والتخوين يعلو فوق صوت العلم والنقاش والبحث. فكيف سننتصر على أنفسنا أولا ثم على عدونا الذي ينمو ويتطور ويتمدد ويعيش ويتوغل في الأعماق كل دقيقة؟ كان هذا السؤال المطروح والمعلق في الأفق على الدوام إلى يومنا هذا!.

ترجم د. هاشم حيدر عام 1968 كتابا مهما هو (الاستعمار الإيطالي في ليبيا.. طرقه ومشاكله) لجان ديبوا وهو من أكفأ علماء الجغرافيا الفرنسيين فيما يتصل بشمال أفريقيا. زار ليبيا عامي 1933 و1934 وشاهد معالم ومراحل الاستيطان الإيطالي فيها. وتتبعها خطوة خطوة في أغلب المناطق وخرج بخلاصته القيمة عنها في هذا الكتاب الذي اهتمت به كلية الاقتصاد والتجارة وأصدرته ضمن منشوراتها ذلك العام.

مهد د. هاشم ترجمته للكتاب بقوله: (الأستعمار هو تراث تاريخي كأي تراث تاريخى آخر فيه الأبيض إلى جانب الأسود يجب الاعتكاف عليه ودراسته دراسة علمية صرفة قصد الانتفاع من التجارب والأعمال التي قام بها ويجب ألا نعتبر الاستعمار فقط - مثل الكثيرين - وصمة عار يجب طمسها ومحوها مع سالبها وموجبها)! رأي جرئ لم ينقطع عن القول به ودراسته وتحليله بمنطق وعلمية رغم حقول الألغام!
.. وماذا حدث أيضا؟

بعد سبتمبر 1969 مباشرة. اتجهت الجامعة إلى دروب أخرى لم يفلح معها الاستبشار بأي خير. كانت أولى خطوات تلك الدروب الملتوية: في الشهر الأول وُضع الأستاذ مصباح عريبي عميد الكلية قيد الإقامة الجبرية وطُلب منه عدم مغادرة بيته. وكذا مدير الجامعة الأستاذ عبد المولى دغمان حتى سجنه لاحقا. فيما تم إنهاء عقد د. هاشم حيدر نهاية العام الجامعي وغادر إلى بيروت.

الاستعمار الاستيطاني المحلي.. لايقل هولا عن مثيله القادم من وراء البحار!.. فكيف سننتصر فقط في معاركنا المقبلة؟!