Atwasat

كارز قروب والإنترنت وسلطة الخيال

سالم العوكلي الثلاثاء 27 يوليو 2021, 11:03 صباحا
سالم العوكلي

أول مقالة كتبتها في بداية الربيع العربي، كانت بعنوان "جيل القطيعة"، تطرقت فيها إلى طبيعة هذا الجيل الرقمي الذي انفجرت مكبوتاته في تونس ثم مصر، وهو جيل فاجأ العالم لأن الكثيرين كانوا ينظرون إليه كجيل خامل وغير مبالٍ، ولا تطلعات له، لكنه طيلة سنوات قبل الربيع العربي، كان معطيا للعالم بظهره، منكفئا على شاشات يرضع منها الضوء كأنها نوافذ مشرعة خارج الحدود بإطلالة على متغيرات العالم السريعة.

وقبل أن يكون الإنترنت جزءا من متاع البيت الضروري، كنت حين أدخل مقهى إنترنت في درنه، أجده مكتظا بالفتية والشباب المنكفئين على هذه النوافذ، يقيمون صداقاتهم وعلاقات الحب في أصقاع الأرض، ويتابعون هذا الزخم التقني الذي يعدهم بالكثير، كي يغادروا عزلتهم التي فرضتها عزلة أنظمة كانت العتمة تقنيتها المفضلة في إعماء الحقائق وتزييف االواقع، وبالتالي كان الواقع الحي هو عالمهم الافتراضي وهذا العالم الجديد هو الحقيقي.

حاولت الأنظمة ومؤسساتها الأمنية أن تراقب هذا الفضاء الجديد، أو توظفه لخدمتها، فكانت مقاهي الإنترنت لا تُرخص إلا بإجراءات أمنية صارمة، وكان على صاحب المقهى أن يسجل أسماء المترددين يوميا في قوائم يبعثها إلى دوائر الأمن، مثلما كانت تفعل الفنادق، غير أن هذا الفضاء الذي انفتح غصبا عن سياسات هذه الأنظمة، كان بمثابة منفىً لهؤلاء الشبان في أوطانهم، لاذوا بها من شبكات الإعلام المضللة التي نسجتها هذه السلطات الخائفة على مدى عقود كي تتحكم بها في تربية الأجيال كما تريد، وكي تنتج بها سلالات مستمرة من المواطنة السلبية، المتطلبة والورعة، والمسبحة بحمد الحاكم الذي يطعمها. لكن هذا الجيل وجد نوافذه المشرعة على عالم آخر يزخر بما من شأنه أن يعري أوهام هذه المنظومات الأمنية التي كانت تتنكر في شكل دول.

بداية الحراك في فبراير، كان الميدان المواجه لمسجد الصحابَى هو المكان الذي يلتقي فيه الجميع، وفيه أقامت جمعية بيت درنة الثقافي منصة تُلقى فيها الخطب والأخبار، وكان ما يقال فوقها، بدايةً، كلمات عن ليبيا المستقبل، والدولة المدنية، والوحدة الوطنية، وكل القيم الجديدة التي يعد بها هذا الربيع، ومع الوقت بدأت مظاهر التطرف الديني، أو ما يسمى من باب الرونقة (الإسلام السياسي) بكل تشعباته، تبرز وتهيمن وتفرض خطابها بقوة السلاح. كنا وقتها نلتقي في مقهى النجمة المجاور لهذا الميدان، ونتحدث عن كل ما يحيط بهذا الحراك وعن الماضي والمستقبل، والحدوس حيال هذه المغامرة الشعبية التي أسقطت نظما عتيدة، وفتحت حدودها الموصدة لكل ما سوف يستجد، وطيلة الأشهر الأولى كان شعور مشترك يوحد كل من شكلوا جزءا من هذه المغامرة، وهو التفاؤل الذي لا حد له، رغم ما يتخلل الأحاديث من مخاوف لها ما يبررها سرعان ما نتخلص من نكدها بالإيغال في التفاؤل.

كنت جالسا مع أصدقاء في المقهي، نتجاذب أطراف التفاؤل الذي بدأ ضوؤه يخفت حين بدأت تتناهي لنا من منصة الميدان خطب دينية تحيط بها هالات من التكبير المبالغ فيه، وأحد الأصدقاء المعكوسين، كما نقول في لهجتنا، كان منتشيا بالثورة وببعض الكحول المصنع محليا، قال معبرا عن حلمه الخاص: آن الآوان أن نتخلص من هذه المشروبات العفنة وتُفتح حانات أنيقة ومرخصة، وبدأ يقترح لها أمكنة في شوارع المدينة، وفي اللحظة نفسها كان يعلو صوت متوتر من المنصة يحُرم كل شيء تقريبا، بما فيها الديمقراطية والدولة المدنية. فمسكت بعلبة السجائر أمامه، وقلت له إذا استمر هذا الحال فحتى هذه السجائر لن تجدها وسيصبح الدخان يُباع خفية مثل المخدرات.

بعد سنوات مر بي هذا الصديق في قريتي التي أسكن بها خارج درنة، وهو في طريقه لشراء السجائر بعد أن مُنع بيعه وتدخينه في درنة، ليذكرني بما قلته قبل ثلاث سنوات، وقال لي: "كنت نحسابك تبصر"، وقلت له تمنيت لو كان الأمر مزاحا، لكن الربيع يُعرف من الباب، وسرعان ما أصبح باب الربيع مدججا بلافتات العنف التي حلت محل عبارات التحرش بالحرية والدولة المدنية والديمقراطية.

في الأسبوع الذي تمت فيه انتخابات أول سلطة تشريعية منذ الانقلاب، وحين كان الجميع يلتقطون صور سيلفي مع أصابعهم المصبوغة باللون البنفسجي، كنا أيضا مجموعة في مقهى النجمة، ندافع بكل قوانا عن شحنة التفاؤل، حين بدأت سيارة تدور في المفترق المحاذي بعد أن أوقفت السيارات العابرة من الاتجاهين، وكان شاب (يمتع) سيارته البي إم العتيقة، واجتاحنا في المقهى رائحة المطاط المحروق وضجيج صوت العجلات المحتكة بالإسفلت. انزعج الجميع، ونهضنا لنتفرج على هذا العرض المسائي من خلف السياج المعدني للمقهى؛ السيارة تدور راقصة بمهارة سائق يعرف ما يفعل بين حشد من السيارات القريبة، ثم انطلق بها مثيرا زوبعة من الغبار إلى لاغاية أخرى، لكن رائحة المطاط مازالت تخيم على المكان، وحين عبر البعض عن ازدرائه وصب اللعنات عليه، قلت وأنا مازلت في غمرة التفاؤل: انظروا إلى الجانب الإيجابي، فما قام به الشاب الآن فن في التحكم في هذه الآلة المجنونة، وفي جميع الأحوال سيارة تمتع وترقص أفضل من سيارة مفخخة، وفي تلك اللحظة كانت السيارات المفخخة مازالت تمتع بطريقتها في الخطب المتسربة إلينا من المنصة.

في تلك الفترة كان ثلاثة شبان يحملون حقائب ظهر وأجهزة لابتوب، يتنقلون في الميدان بغبطة، ولا شاغل لهم سوى التقنية والحلم بتوطينها، وإنجاز ورش حول تقنية المعلومات، وكان هندامهم الأنيق وتهذيبهم وهوسهم بالمستقبل، يضعهم في قلب هذا الجيل الضخم من الطبقة الوسطى الذي لا هاجس له سوى المعرفة: ماهر المسماري، سراج قاطش، محمد باطوها، نشطاء مدنيون مقبلون على الحياة، منتمون لثورة المعلومات الكبرى التي تفرعت منها الثورات العربية. وبعد فترة تناهى إلى درنة المحاصرة نبأ ذبح هؤلاء الشبان من قبل ما سمي مجلس شورى مجاهدي درنة، واكتأبت لفترة حين سمعت الخبر المفجع لأني عرفتهم عن قرب، ولمست الشغف الذي كان لديهم بالمستقبل وبمشروعهم المتعلق في جوهره بالمعرفة كرهان على المستقبل.

كان الحزن في ذروته حين أصبح هذا المجلس الدموي يقدم في قناة الجزيرة وقنوات الأخوان المسلمين المسيطرين على العاصمة كمؤسسة لثوار فبراير الذين يحمون درنة وضواحيها من الثورة المضادة. وأصبح التشاؤم الموضوعي يتسكع بأبهة على كل الوجوه وفوق الألسن حين وصلت لهؤلاء القتلة الأموال الطائلة، والأسلحة الثقيلة، والمقاتلون الجدد، وتحت اليأس النابع من هذا الرعب الذي بدأ يتهدد كل ومضة جمال في المنطقة وكل كاتب أو فنان أو ناشط مدني، أصبحت الحكمة القاسية: "لإيقاف شخص سيئ يحمل سلاحا أنت في حاجة لشخص جيد يحمل سلاحا".

لا أعرف كيف تسربت مني هذه المقالة، وذهبت نحو هذه الشجون وذاكرةِ التفاؤل التي اجتاحها الإرهاب بكل ما أوتي من شر، لكن ما أسس له هذا الجيل المتمرد في الربيع العربي سيظل نابضا رغم كل ما أحاط بهم من تهميش، ومن إجهاض لأحلامهم، فهم يديرون ظهورهم لكل التقاليد التي أنتجتها ثقافة الوصاية والطاعة والتحكم في أدوات التنشئة، وحقيقة ما أوحى لي بهذه المقالة هو مشاهد متكررة لشبان يشكلون جماعات، أو مجموعات، ما يربط بينها أن تقتني النوع أو الموديل نفسه من السيارات، يلتقون ويقيمون مهرجاناتهم الخاصة، وحيث غابت في ليبيا المنظمات أو المجموعات التقليدية، فلا نقابة عمال ولا محامون ولا اتحاد كتاب، ولا أندية للشعر أو القصة ولا ولا، تطغى الآن هذه الظاهرة التي تعطي بظهرها لكل هذه التجمعات التقليدية.

هي انعكاس لظاهرة عالمية بدأت تتشكل خارج هذا النظام الكلاسيكي للمجموعات البشرية، وأصبحنا نرى حشودا في العالم لا يربط بينها سوى الهوس بالتقنية والمعرفة، ولا يجمعها سوى مواقع التواصل. وأنا شخصيا أحس بغبطة حين أرى أو أسمع بهذه التجمعات الجديدة، وهي ظاهريا ليس لها علاقة بالسياسة أو ما يحدث، وما يجمعها هو وجودها في فضاء صناعي أو تقني معرفي، دون أن نُغيّب المسحة المابعد للسياسية الكامنة في هذه الخيارات، باعتبار هذه الأجيال تسعى للتخلص من شبكة السياسة التقليدية التي نسجتها النظم القديمة، ويعاد تدويرها كما هي صوب أفق آخر لا مشترك فيه سوى العلم وابتكاراته، مثلما انسحبوا يوما من شبكة الإعلام الرسمي صوب أفق أثيري مفتوح للتعبير عن ذواتهم وعن آمالهم وحتى نزواتهم، مقيمين صداقات عابرة للحدود وللهوية ولكل ما هو تقليدي ومكرس. ولعل ما حدث بعد جائحة فيروس كورونا المستجد يكرس هذا المحتوى التضامني للعالم الأجد، حيث ارتبك السياسيون والمنظرون في علم الاقتصاد، واختفت هالة الأحزاب والمنظمات الكبرى، وما عدنا نرى في العالم سوى تنظيم واحد يتطلع إليه الجميع، من يسكنون في القصور أو في خرابات العشوائيات، وهذا التنظيم غير الرسمي هو علماء الفيروسات واللقاحات الذين يتبادلون معلوماتهم عبر تقنيات ثورة المعلومات التي وفرت لهم الوقت والقدرة على الاتصالات، ما يجعلني أتذكر كيف كان علماء الفيزياء في بداية القرن العشرين ينقلون الرسائل فيما بينهم بصعوبة بالغة عبر خنادق الحروب.