Atwasat

الروح أنهكها الانقسام، فانسحبت (في رثاء الشريف: يوسف الشريف)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 25 يوليو 2021, 10:10 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

من أوائل من انتبهوا إلى "الجدار" الذي شق، كالفطر، أرضية المجتمع الليبي وأخذ يعلو ويحدث انقساما. ومن الذين نبهوا إلى ذلك مبكرا قارعين الجرس في إبداع أدبي راق.

في قصته المتميزة "الجدار"، التي أعطت مجموعته القصصية، الأولى، الصادرة سنة 1966، اسمها، يرصد يوسف الشريف بدايات التصدع الذي أخذ يحدثه الدخل الوطني للنفط على بنية المجتمع الليبي.

لقد حدث توزيع جديد للثروة الوطنية بشكل بدأ ينتج عنه تفاوت في الدخل، وبالتالي تمايز في الوضع الاجتماعي والطبقي، تولدت عنه مشاعر سلبية بين الناس تعبر عن هذا التصدع والفجوة، أي أن الفجوة أحدثت جفوة اجتماعية. فحين يعود بطل قصة "الجدار" إلى حيه القديم الشعبي، الذي ولد وتربى فيه، بعد مدة من انتقاله منه نتيجة تحسن في وضعه الوظيفي ودخله المالي، وسكنه في منطقة "راقية"، وهو يقود سيارة، يقابله جيرانه القدماء "الفقراء" بتحفظ وجفاء: لقد نبت جدار عازل بين الطرفين.

هذا الجدار أخذ يزداد علوا وسماكة، والتصدعات في البنية الاجتماعية تزداد اتساعا ونسيجها يتعرض إلى اهتراء وتمزق، وصار الإنسان البسيط يتعرض إلى المراقبة والتتبع الأمني، مثلما تصور ذلك قصة "الرجل الآخر".

ومع النظام السياسي الجديد تطور الانقسام إلى أن يفر البعض من "ضيم الوطن" إلى بلدان أخرى، فيصبح تتبعهم شغل الدولة الشاغل ليكون بديلا عن التنمية وبناء الاقتصاد الوطني المستقل وتوفير الأمن والكرامة للمواطن، ويصبح اغتيال المعارضين إنجازا وطنيا مثلما تصور قصة "بزنس" الجريئة.

فلقد نص أول بند في بيان الملتقى الثالث للجان الثورية (1980) على أن "التصفية الجسدية هي المرحلة الأخيرة، في جدلية الصراع الثوري لحسمه نهائيا"، كما أعلن معمر القذافي في خطاب مبثوث مشهور أنه سيلاحق معارضيه في كل مكان من الكرة الأرضية، حتى في القطب، وهو أقصى مكان يمكنهم الوصول إليه، مثلما عبر، وأنه سيسبي نساءهم وييتم أطفالهم.

وبدلا من أن يجري العمل على ترميم التصدع وتضميد الجراح بعد 17 فبراير 2011، ازداد التصدع اتساعا وازدادت الجراح عمقا ونزيفا منذ الأشهر الأولى التالية للانتصار، وانتقلت الأوضاع إلى الحالة الكارثية من خلال تفشي الإرهاب والحروب الأهلية وما أسفر عنها من قتل وإعطاب وإعاقة وتهجير وتدمير، وما من حل مرضٍ يلوح في المدى القريب.

الشريف، يوسف الشريف، الذي نذر نفسه لرصد الانقسام والتصدع والتنبيه إليه والتحذير منه، يرحل عنا بشرف الفارس النبيل الذي لم ينسحب من معركته. إنه لم ينتصر، لكنه لم ينهزم. إلا أن روحه أنهكها تفاقم الانقسامات وما نتج عنها من كوارث، فآثرت مغادرة هذا العالم بعد أن أدت واجبها بإخلاص وشرف.