Atwasat

الديكتاتورية الطبية

رافد علي الخميس 22 يوليو 2021, 10:44 صباحا
رافد علي

يواجه الرئيس الفرنسي ماكرون مزيداً من الرفض في الشارع بعد أن أقرت حكومته إجراءات احترازية جديدة تتمثل في إجبار المواطنين على التلقيح ضد كوفيد 19 وحمل شهادة طبية كإقرار حكومي بذلك أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية المعتادة، فقد احتج، بعطلة نهاية الأسبوع الماضي أكثر من 100 ألف مواطن ضد القرار الحكومي حسب إحصائيات سلطات الأمن بالبلاد.

وبعيداً عن استطلاعات الرأي المنشورة تباعاً منذ مايو الماضى، حيث انطلقت حملة التطعيم المجاني ضد الجائحة بفرنسا؛ كاستطلاع معهد اوبينين واي، التي تشير أغلبها إلى نسب ضعيفة في معارضة تلقي اللقاح الواقي ضد كوفيد 19، فإن المعارضة الحالية لإلزامية التلقيح تشير إلى أن أزمة الثقة بين ماكرون والشارع تزداد تعمقاً، فلم تتردد الجموع بمطالبة ماكرون بالاستقالة، مما يزيد من وطأة هزيمة حزبه الجمهورية إلى الأمام في الانتخابات المحلية الأخيرة، ويزيد من الأمر سوءا، بالنسبة للرئيس الشاب، أن المعارضة السياسية بفرنسا، وعلي رأسها السيدة لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني المتطرف من اليمين، أنها تسعى حثيثة لاستقطاب الجموع المحتجة لصالحها، لتعويض خسائرها في الاستحقاق الانتخابي الأخير عبر تجييش الغضب في الشارع ضد سياسة ماكرون في إدارة أزمة الجائحة أولاً، وفي نقد سياسته في إدارة البلاد بشكل عام.

واقع الحال على الأرض يشير إلى أن الاحتيجاجات الأخيرة في البلاد ليست سياسية صرفة، فمنها ما هو قائم على أساس إيديولوجي، خصوصاً تلك التي تعتبر أن الإجبارية في التلقيح تمس عنصر حرية المرء على جسده، إذ يعتقد هذا التوجه أن التحليل الدوري لفيروس كورونا كفيل بأن يكون وثيقة رسمية بدلاً من "الباسبور" الحكومي، أو الشهادة الحكومية المقرر إصدارها بعد تعاطي الجرعة الثانية. من جهة أخرى، أصحاب التوجه الطبيعي والذي يتملكهم حس مضاد لتناول الأدوية، وهو "عقيدة" منتشرة بالبلاد؛ يرون أن الاهتمام بتناول أطعمة تزيد من المناعة الطبيعية للبشر كفيلة بتعزيز مقاومة المرض بالنسبة للأشخاص ذوي الصحة الجيدة، فالأعراض المرضية، حسب رأيهم، لن تكون أعراضا خطيرة، بل ستقتصر، كما هو مشاع دولياً وموثق، على حُمى طفيفة وفقد حاستي الشم والتذوق.

ما يزيد من مأزق ماكرون وحكومته، أمام الأصوات المحتجة ضد سياسته الصحية في فرض التلقيح الطبي هو انعدام الشفافية فيما يتعلق بالأمصال المضادة للجائحة، فمعظم المواطنين يشكون من انعدام توفر معلومات كافية حولها بشكل واضح ومُشاع، مما يعزز جدلية الغوغائيين واللا سلطويين في ترويج نظرية المؤامرة بالبلاد، التي لا تخلو من بعض الترهيب والتخويف من الأمصال الموجودة عالمياً، فهذان التياران يبثان معلومات للعامة عبر الانترنت، أو في خطابهم بشكل عام، بما يفيد أن الأمصال "ليست مؤكدة الفاعلية" بسبب سرعة اختراعها والعُجالة في صنعها، ويجادل بعضهم بدعوى أنها أمصال قادرة علي "تغيير الحامض النووي". فالجدال المطروح في الشارع بشعبويته لازال يتداول بقوة رغم تصريحات منظمة الصحة العالمية بأن السرعة في اختراع وإنتاج الأمصال مرده للتطور العلمي والتقني وضخامة الاستثمارات بالخصوص، إلا أن الطرف المحتج في الشارع لازال يرد بأن الأعراض الجانبية للكوفيد 19علي المدى الطويل لازالت غير معروفة. هذه الجدلية لا تقتصر على حالة الاحتجاج بفرنسا فقط، ولكنه نقطة ساخنة علي مستوى العالم، فالمخابر الطبية المصنعة للأدوية والمستثمرون معهم لازالوا بعيدين عن منصات الشفافية، وهي نمطية معتادة جدا للأسف.
حالة الرفض والاحتجاج الحالية بفرنسا القائمة اساساً على انعدام الثقة تجد تفسيرها في مسلسل من الفضائح الطبية المتعلقة بالأدوية على امتداد عقود بالبلاد، منها على سبيل المثال فضيحة لينوتيروكس الشهيرة، التي أثبتت التحقيقات علم الحكومة الفرنسية حينها بأخطار الدواء، إلا أنها رخصت للدواء بالتداول التجاري، ولعل هذا يفسر ميلاد شعار "ديكتاتورية طبية" الذي رُفعَ في الاحتجاجات الأخيرة في وجه تدابير حكومة ماكرون الأخيرة.

لجنة الدستور بالبرلمان الفرنسي، في الأيام القليلة الماضية، لم توافق، رغم تأييدها لمشروع القانون، على كل قرارات الحكومة بخصوص التدابير المرجوة، كقيمة الغرامة لمن لا يحمل "باسبوراً" في الأماكن العامة كالمراكز التجارية، ولشبهة العنصرية في مشروع القانون لعدم السماح للمرضى والحوامل والأم المرضعة بحقوق أساسية ضمن سياسة الإجبار على التطعيم، بما يفرط في حق هذه الفئات في التجوال والتسوق والتردد على الأماكن العامة. فلازال الشارع الفرنسي، رغم الأخذ والرد يترقب خطاب رئيس الوزراء لاحقاً هذا الأسبوع، الذي من المؤكد أنه سيحظى بالتمرير أو الاعتماد، لأنه يصب في خانة الأمن الصحي للبلاد لمواجهة احتمالية موجة رابعة للكوفيد 19 وتحورات سلالته الأخيرة كدلتا، رغم معارضة فرنسا الأبية وهو يسار راديكالي، والتجمع الوطني اليميني المتطرف.

غابرييل آتال، المتحدث باسم الحكومة يقلل من منطق الاحتجاجات القائلة بأن إجراءات الحكومة الجديدة تشكل "ديكتاتورية" أو "تقويضا للحرية"، معتبراً أن الاحتجاجات مواقف "محيرة" "لأنها تعطي الانطباع لدى من يتفوه بها وكأنهم يكتشفون، بعد عام ونصف من ظهور الجائحة، أن الفيروس يقضي على الحريات"، مذكراً بأن الحكومة تمس الحريات بأقل قدر ممكن، وأن الحكومة ترمي لـ "ترك أكبر عدد من الأماكن مفتوحة" مع حماية الأشخاص الذين يقصدونها بفضل التطعيم.

حالة التجاذب بين الجهات الثلاث، الحكومة والشارع والبرلمان، بكل التوتر السياسي فيها بقصد الحرص على الأمن الصحي للبلاد، والضغط العام للعودة للحياة الطبيعية والمثابرة علي صون ميراث الحريات كقيم راسخة عند المواطن، من الأمور التي يجب أن نقف عندها كشعوب عربية أولاً، لأننا شعوب لازالت تخاف أن تعبر عن رفضها وبهدوء. ويجب على نخبتنا ثانياً أن تتأمل فيما يجري بفرنسا، لأنها نُخب لازالت تهادن الغُبن، بل إن الواقع كثيراً ما يبوح بأن كليهما - شعباً ونخبة- قد يتمرسان أحياناً كثيرة في خانة اللامبالاة إزاء ما يجري، لأن "الخبز الحافي" يتمظهر غالباً كهاجس على مدى المحن.