Atwasat

عن الثقافة السياسية

جمعة بوكليب الخميس 22 يوليو 2021, 10:41 صباحا
جمعة بوكليب

قبل أسبوع من بدء أول سنة دراسية لي، في جامعة ريدنج البريطانية عام 1990، دعا قسم السياسة والعلاقات الدولية الطلاب المستجدين لحضور محاضرة بعنوان "الثقافة السياسية البريطانية- British Political Culture." الغرض منها كان تنوير طلبة مستجدين، التحقوا لتوهم بالجامعة لدراسة علم السياسة، بطبيعة الثقافة السياسية التي توجه مسارات العملية السياسية في البلد الذي يدرسون فيه. لذلك، كان من الضرورة بمكان إحاطتهم بتلك الثقافة و تنويرهم بمساراتها حتى يسهل عليهم متابعتها والتعامل مع تفاعلاتها وتجاذباتها اليومية. تلك المتابعة ستكون ناقصة بدون الإلمام بمسارات السياسة وآلياتها، التي تأسست عبر قرون طويلة من الزمن، ومخرجاتها المتوقعة، وما يتوقعه المواطنون من قادتهم وأحزابهم.

واستناداً إلى أكاديميين مختصين: "تُفهم" الثقافة السياسية" على أنها تعني البيئة التاريخية والثقافية والسلوكية التي يجب أن تعمل المؤسسات السياسية البريطانية ضمنها1. ليس من السهل التعميم حول الثقافة السياسية البريطانية، ولكن من الممكن تحديد بعض الخصائص الرئيسية التي تؤثر على كل من العملية، ونتائج السياسة في بريطانيا". وتاريخيا، تشكلت الثقافة السياسية البريطانية من عدة عوامل جغرافية ( بريطانيا جزيرة) وتاريخية (ملكية برلمانية والاتحاد البريطاني بين أربع قوميات، والإقليمية شمال - جنوب، وتاريخ الإمبراطورية البريطانية) ودينية (دولة مسيحية الديانة). العلاقة بين المواطن البريطاني وحكومته ومؤسساتها المختلفة تحددت وفقاً لدستور غير مكتوب، تأسس على أعراف وتقاليد وسوابق. وهو (أي المواطن) يعرف حقوقه ويدافع عنها بقوة. ويفضل أن يدلي بصوته لحزب سياسي وفقاً لموضعه الطبقي عموماً. كما يفضل في اختيار زعمائه أن يكونوا أقوياء، قادرين على حماية مصالح بريطانيا وتطويرها.

هذه باختصار- آمل ألا يكون مُخلا - ما تعنيه الثقافة السياسية كما خبرتها في بريطانيا. لكن من المهم الإشارة إلى أن الثقافة السياسية ليست حكراً على بلد دون آخر، بل تتوفر في جميع أمم الأرض التي عرفت نظام الدولة. وهي لذلك تختلف من بلد إلى آخر. وفقا لطبيعة الأنظمة السياسية وتطورها التاريخي في كل بلد.

وهذا بدوره يفضي بنا إلى التساؤل حول الثقافة السياسية الليبية وطبيعة العملية السياسية في ليبيا، وتوقعات مخرجاتها. وحين نواجه السؤال، وجها لوجه، نكتشف أن الثقافة السياسية الليبية خاضعة لبيئتها الجغرافية، ووليدة لظروفها التاريخية. دولة واسعة المساحة، تفصل الصحراء بين أقاليمها الثلاثة، الأمر الذي خلق بيئة مختلفة في كل إقليم تختلف عن الأخرى. انعدام التواصل هيأ الفرصة لتواجد ثقافات سياسية وليس واحدة. آخذين في الاعتبار دور الظروف التاريخية التي جعلت كل إقليم يخضع لقوى غازية وحاكمة مختلفة. الإيطاليون، كانوا أول من ربط بين أجزائها الثلاثة بطريق معبد، وبذلك وحدوها، إلا أن تلك الوحدة كانت ضعيفة، لذلك حين ولدت دولة الاستقلال لم تجد صعوبة في اختيار النظام الفيدرالي. ليبيا لم تعرف أحزابا إلا في فترة زمنية قصيرة، وألغاها النظام الملكي بعد أول انتخابات برلمانية عقدها. والبرلمان الذي استمر في التواجد حتى عام 1969 كان خلال بعض فتراته منصة مرصودة ومراقبة لفئة صغيرة جداً من أعضائه يعارضون الملكية.

بعض النواب المعارضين تنازلوا عن المعارضة لدى منحهم مناصب حكومية. وحين حدث الانقلاب كانت الأرض ممهدة لقيام حكم استبدادي. طبيعة الحكم الاستبدادي تجعل وجود معارضة أمراً مستحيلاً. لذلك كان على من يريد معارضته أن يغادر البلاد أولاً لضمان سلامته الشخصية، ومن ثم يعلن معارضته. وحين نشأت المعارضة في الخارج وجدت نفسها تقتفي أثر النظام العسكري، أي أنها لم تكن ديمقراطية. وكان على أعضائها وكوادرها المختلفين مع توجهات وسلوكيات قياداتها إعلان انسحابهم منها أولا، ثم يليه بعد ذلك الجهر بمواقفهم المعارضة. علاقة المواطن بالدولة الوطنية حملت في أحشائها علاقته بالدولة المستعمرة. فالحكومة جسم غريب ليس موثوقاً به. و الولاء دوماً للعائلة والعشيرة والقبيلة. وأملاك الدولة وثرواتها مغنم لمن استطاع إليه سبيلاً.

لذلك، يمكن القول إن الثقافة السياسية الليبية قائمة على مبدأين أساسيين هما الغلبة (تريس تغلب تريس) والغنيمة. هذان المبدأن تعود أصولهما إلى الماضي القبلي، والغزو القبلي، وثقافة (عد رجالك وورد على المية).

عدم ثقة المواطن بالدولة وبمؤسساتها خلق هوة ازدادت اتساعا بينه وبينها. فلا هو يثق بها ولا هي تأتمنه. لذلك، كان المطلوب منه المجاهرة في كل مناسبة بإعلان ولائه وبيعته للحاكم (واللي في القلب في القلب يا كنيسة.) ربما هذا يفسر عمليات النهب التي شاهدناها خلال السنوات الأخيرة لثروات الدولة وأملاكها، وعلى أعلى المستويات، ويذكرنا بما قاله السيد غسان سلامه: (ظهور مليونير كل يوم.).